الأحد 2017/07/30

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

1900..آدم الذي رفض النزول إلى الأرض

الأحد 2017/07/30
1900..آدم الذي رفض النزول إلى الأرض
كأن باريكو يلوم آدم على النزول إلى الأرض
increase حجم الخط decrease
 
حينما تقرأ نصا مترجما لفيلم سينمائي أحببته، ستظل طوال القراءة متحفزا للفارق بين النص المرئي، والنص المكتوب، ربما ستضع خطوطاً أيضا تحت العبارات، التي رأيتها متجسدة أمامك في المشاهد التي تعلقت بها، هذه كانت حالتي بينما أقرأ ترجمة لرائعة الكاتب الإيطالي إليساندرو باريكو "1900 مونولوج عازف البيانو في المحيط" وهي التي حوّلت فيلما بعنوان  "أسطورة 1900" عام 1998، ولعب بطولته البريطاني تيم روث.
صاغ أليساندرو باريكو عمله في ما يشبه الرواية الممسرحة، كتبها في البداية للمسرح، وأخرجها غابريله فاشيس عام 1994 وحينما حصل على ثناء الجمهور، صدر في شكل كتاب مطبوع، في البداية تساءلت: ما معنى العنوان الفرعي الذي حمله العمل "مونولوج عازف البيانو في المحيط"، المونولوج هو الحديث الطويل الذي يحتكر فيه شخص واحد الكلام، وهو ما جعل صاحب العمل يهيئ قارئه أن يستعد لقصة طويلة، يحتكر فيها السرد شخص واحد، أنه الراوي في المسرح، أو الملقن الخفي الذي يمنح الشخصيات على الخشبة ما سيقولونه من حوار، لكن حينما نمعن في القراءة نكتشف أن اللعبة التي يمارسها باريكو أكبر من ذلك.

يستهل باريكو المونولوج بالمشهد الشهير في الفيلم، حلم كل مسافر على السفينة التي يعزف عليها 1900، الذي يتحقق حينما يرى أميركا للمرة الأولى، تطل من خلف الضباب، والسحب، على السفينة، يلمح أحدهم أميركا، قبل الآخرين كما لو كان مكتوبا في قدره منذ صغره أن يراها أولا، يربط باريكو رؤية أميركا بالقدر، وليس بقوة البصر، يمنح الحلم أسطورته، فيتهيأ القارئ للحدث الجلل القادم في الصفحات التالية، أسطورة أخرى، لعازف لم يطأ اليابسة أبدا، ولم يجرب أن يفعلها، عازف يقرأ مستقبل الناس حينما ينظر في عيونهم، ويعرف ما سيرون، لا ما رأوا.

يتبنى السرد في البداية صديق البطل، نافخ البوق، يدس باريكو بمهارة فقرات تصف حركة الأبطال في المتن النثري، فتشعر أنك لا تقرأ عملا روائيا، بل مسرحية، بعد صفحات يقول: يخرج الممثل من المشهد. تنطلق موسيقى ديكسي توحي بالبهجة، والحمق تحديدا. يدخل الممثل ثانية مرتديا زي عازف جاز على متن السفينة، في غاية الأناقة. ومن الآن فصاعدا يتصرف كأن الفرقة الموسيقية على خشبة المسرح حقا".

بهذه الفقرة وشقيقاتها اللاتي ستليها، يمسرح باريكو عمله، يجذب خيوط السرد فى اتجاه الرواي العليم، عازف الجاز، الذي يحكي عن المرة الأولى التي التقى فيها داني بوودمان ت.د ليمون 1900، يمتلك عازف الجاز خيوط الحكاية من أولها، قصة السفينة وروادها، قبطانها، وقصة العثور على 1900 في صندوق من الكارتون، وحكاية العثور عليه في علبة كارتونية بصالة الرقص بالدرجة الأولى، عازف الجاز قاص بارع، يمزج بين التقديم والتأخير وهو يمهد لحكايته العظمى عن 1900، يحكي عن مشهد النهاية، في سطر سريع.." آخر مرة رأيته فيها كان جالسا على صندوق ضخم مليء بالديناميت"، ثم يعود للحكاية من أولها، بقوله: "لا تحل عليك اللعنة ما دمت تحظى بقصة حياة فريدة وشخص ما ترويها على مسامعه".

تفّرد القصة، هو ما يراهن عليه إليساندرو باريكو، والذي يظهر جليا في حبكة عازف بيانو، لا يعزف أبدا إلا حينما يكون المحيط أسفل مؤخرته، باريكو الناقد الموسيقى يبرع في وصف مشهد المبارزة الموسيقية بين محتكر الجاز جيلي مورتن و1900، المشاهد التي ظننت أنها كتبت بواسطة مؤلف موسيقي، تبين لي أن وراءها سارد ومسرحي كبير هو باريكو، وبالتأكيد شاعر، يصف باريكو المنازلة الموسيقية بين جيلي مورتن و1900 بعد تعارفهما الساخر: أنت محتكر الجاز؟ أجل وأنت الفتي الذي لا يعزف إلا إذا ركن مؤخرته على سطح المحيط؟ أليس كذلك؟
 نقرأ الوصف الشعري للموسيقى التي تهدر من أصابع العازفين، يقول باريكو واصفا عزف جيلي مورتن: "يداه تنزلقان، كما تنزلق الثياب الحريرية على أجساد النساء، ويجعل المعزوفة راقصة، كأنها تحتوي على كل بيوت الدعارة الأميركية، تلك البيوت الراقية، التي كل ما فيها أنيق، حتى زاوية تعليق الثياب".

بهذه السطور، وتلك الكلمات، تكتسب المشاهد السينمائية للمنازلة الموسيقية بين مورتن و1900، روحها السردية، ينافس باريكو بنصه الكتابي، النص السينمائي، الذي كتبه هو أيضا وجيسوب توماتور، حتى في مشهد العزف النهائي، الذي ينتصر به 1900 على غريمه، تكتسب كلمات باريكو النصية روحها الوثابة، التي تحمل صورة منافسة للمشهد السينمائي، يقول: كان كالبهلوان، يقفز بخفة وانسيابية عالية. عزف كل ما يمكن عزفه على لوحة مفاتيح مكونة من 88 مفتاحا. بسرعة رهيبة، دون أن يخطيء بنغمة واحدة، دون أن يحرك عضلة واحدة من وجهه.
بشكل ما، ويقين كامل، يمكنني أن أقول ان عمل باريكو ليس مجرد رواية ممسرحة، بل يتضمن فقرات شعرية كاملة، تلك التي افتقدناها بشكل كامل في الفيلم، يقول باريكو واصفا طفولة 1900: 
استيقظ البحر\ تكدر البحر\ وانفجرت المياه في وجه السماء\ هاجت وابتلعت كل شيء\ ثم قذفت الغيوم والنجوم إلى ملاعب الريح\ واندلعت الزوابع\ ثارت إلى ما لا نهاية\ لا أحد يدري\ متى تستريح دوامة الغضب\ ومتى تخبو العواصف\ يا أماه\ لماذا لم تخبريني بدنو هذه الأزفة؟\ هدهديني كي أنام\ كما يهدهدني البحر\ في حضن هذا الزورق المتأرجح.

ليس هذا هو المقطع الشعري الوحيد الذي يضمنه باريكو في نصه صغير الحجم، الكبير في المعنى، بل يختم عمله بمقطوعة شعرية تأخذ شكل المونولوج، الحديث الطويل الذي لا تقطعه شخصية أخرى، هنا تتبدى لعبة باريكو المقصودة من وراء "مونولوج عازف البيانو في المحيط" والذي يبرر فيه 1900 أسباب تراجعه عن اليابسة، في النص السينمائي لا يتبين المشاهد روعة هذا الجزء، ولا يشعر بشاعريته، لكن هنا يحمل روحه الشعرية، شديدة الكثافة، وشديدة الخصوبة، يقول باريكو على لسان "1900" :
لم أستطع أن أرى نهاية تلك المدينة الشاسعة\ النهاية رجاء، هل لي أن أرى النهاية؟ \ على ذلك السلم الملعون.. بدا كل شيء جميلا.. وأنا كنت أبدو بذلك المعطف رجلا محترما، وكنت متيقنا من النزول\ الدرجة الأولى، الدرجة الثانية، الدرجة الثالثة \ لم أخف مما رأيت بل مما لم أر\ في تلك المدينة المتهالكة كان يوجد كل شيء\ عدا النهاية، لم أستطع أن أرى النهاية. نهاية العالم\.

رفض 1900 النزول إلى اليابسة، كأن باريكو يلوم آدم على النزول إلى الأرض، وخلق بطله على غرار آدم، بدون هوية، بدون شهادة ميلاد، لم يُسجل في وثيقة، لم يدخل سجلا مدنيا، أنه آدم خصب، الفارق بينه وبين آدم، أن الآخير خضع للغواية، يقول باريكو: "الأرض سفينة كبيرة جدا على مقاسي. الحياة رحلة طويلة جدا، إنها امرأة في غاية الجمال، عطر ثاقب جدا، موسيقى، لا أتقن عزفها، اعذروني لكنني لن أنزل. دعوني أعود إلى الوراء.

(*) "1900 مونولوج عازف البيانو في المحيط" صدرت عن منشورات المتوسط- إيطاليا بترجمة معاوية عبد المجيد
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها