الثلاثاء 2017/05/30

آخر تحديث: 13:40 (بيروت)

هاينكه ولانثمينوس: عن عائلة الاضطهاد والذنب

الثلاثاء 2017/05/30
increase حجم الخط decrease
عمالقة السينما الأوروبية، تنافسوا على السعفة الذهب، في مهرجان "كان" بدورته السبعين، وأبرزهم: مايكل هاينكه ويورغوس لانثمينوس. الأول مع فيلم "نهاية سعيد" الذي لا يحمل من السعادة سوى العنوان، أما الثاني المتميز دائماً، فله فيلم "مقتل الغزال المقدس".

لا مكان للسعادة عند هاينكه
هجاء وسخرية عن خاتمة يفترض أن تكون سعيدة، لكن هذه ليست النتيجة المستقبلية التي يقدمها المخرج النمساوي هاينكه في فيلمه الأخير "نهاية سعيدة".

في الواقع، الفيلم بمثابة تدمير ذاتي، يزيح الستار عن الشك ويؤكد لنا بأننا منذ فترة طويلة على عتبة الهاوية ولا نريد أن نعترف بذلك. وبأن من يدّعي التحضر، متمثلاً بمجتمع أكثر عدالة ومساواة، يمكن وصفه بالموهوم. يجلب الفيلم العديد من الموضوعات التي اضطهدت فكر المخرج وتضطهد فكرنا جميعاً. فيلم يجبرالمشاهد على ملء الفراغ من تسلسل الأحداث، وخير دليل على ذلك ما قاله المخرج في المؤتمر الصحافي: "هدفي على الدوام هو أن أقول أقل ما يمكن لإثارة خيال المشاهد لأقصى حد".

يحكي الفيلم قصة عائلية، عن جورج لوران (جان لويس ترينتيغنانت) العجوز وكبير العائلة في كاليه. يعيش مع ابنته آن لوران (إيزابيل هوبيرت)، وحفيده بيار لوران (فرانز روجوسكي). ومن ثم يأتي شقيق آن، جورج توماس (ماثيو كاسوفيتز) مع عروسه الجديدة آنيس وطفلتهما، ليسكنا معهم في القصر الذي يديره زوجان مغربيان. أما إيف، الابنة الثانية لجورج، فتنتقل للعيش مع والدها في كاليه بعدما كانت برفقة والدتها في جنوب فرنسا. ونتيجة كل هذه الأحداث، تنحصر في أن الجميع سيكونون مذنبين بشيء ما، مع نهاية الفيلم، لكن من دون تحميل المسؤولية لأي كان.


في عائلة هانيكه، هناك الموت، المخدرات، الحب، الكره، والإنتحار. أما الشعور بالذنب وعدم قدرتنا الخروج من الحالة، فهو الموضوع المفضل لهاينكه. وعلى الرغم من أن إعادة المواضيع غير مستحبة أحياناً في السينما، إلا أن هانيكه يجيدها بطريقة فذة. فيأتي الفيلم على غرار الأعمال السابقة، لكن مع طرح مواضيع ساخنة وزيادة مكونات، وتركها تغلي على نار هادئة.

وهذه المرة، النقطة السوداء التي يريد هاينكه إلقاء الضوء عليها هي وضع المهاجرين، وقبل كل شيء وضع اللاجئين في كاليه، لكن بطريقته المعهودة، بحيث لا يلامس الموضوع بطريقة مباشرة، بل يحوم حوله ويتركنا مكفوفين لا نراه رغم وجوده وسط كل شيء. فتكون العائلة المغربية مجرد أثاث في المنزل، ويظهر اللاجئون كضيوف غير مرغوب فيهم. الكثير من الأحداث تجعل إهتمامات هاينكه واضحة، كعدم التهرب من الذنب، وتحميل المسؤولية للجميع.

في الفيلم سر غامض، يحشد شعوراً لا يمكن التعرف عليه، قريباً جداً من الشعور بالذنب. عنف، مع لمسة صبيانية. جسد امرأة يتحول إلى جرح، والضحية هي الطفولة. كل ذلك بمثابة جدار عال لعزل أنفسنا، لكن قبل كل شيء هناك الحب، الموت، والموت فقط..

لانثمينوس والتضحية المقدسة
لا يختلف فيلم "قتل الغزال المقدس"، للمخرج اليوناني يورغوس لانثمينوس، عن سابقاته، من حيث الغرابة والقصص المثيرة. لكنه يأتي في قالب جديد. لا مجال للحياد في الفيلم. إما أن تمقته أو أن يكون من أهم أفلام لانثمينوس بالنسبة إليك. لا مكان للوقوف في المنتصف، مع سينما لانثمينوس التي تخطفك الى مكان مجهول، بارد، ضبابي، بحيث يصعب عليك الهروب.

"قتل الغزال المقدس"، مأساة يونانية قدمت على طبق كوميدي خفيف. طبيب وزوجتة (كولين فارل ونيكول كيدمان) يعيشان حياة مثالية مع طفليهما المتألقين. لكن عندما يدخل صبي مراهق يدعى مارتن (باري كيوغن)، بصفة إله قديم، وقوي إلى حياتهما، يجدان نفسيهما في كابوس. وهنا يتحول الفيلم إلى مأساة كلاسيكية، مع محاسبة على خطايا ماضية.

من خلال الجهاز الهيكلي والسردي في هذه المأساة اليونانية، ينجح لانثمينوس في طرح التفكير الحيواني الغرائزي لمجتمع بدائي في صلب مجتمع تكنولوجي. ومرة أخرى، يتألق المخرج بقدرته على نسخ الإستعارات التي تفرض نفسها على الواقع المعاش، معتمداً الأسلوب البارد لأفلامه السابقة. أما الموسيقى، فتجبرك على الشعور بعدم الارتياح، لتكون أمام عالم تجهل ملامحه، وقصة تبدأ من دون أي أساس. لكنك لا تستغرق وقتاً كثيراً كي تعي ما يحصل أمامك، وتفكر فيه. عندها لا يسعك سوى التمهل لمراقبة ما يجري على الشاشة بكل تمعن وإصغاء.

هنا، الشخصيات معدومة المشاعر، الصبي مارتن يشكل تهديدا باردا مع نظراتة الجليدية، كأنه قوة الهية تأتي طالبة التكفير عن الذنوب والآلام والخطايا. أما المأساة المعلنة، فتُخرق بفكاهة. إذ يكشف لاثمينوس سخرية الواقع، والضحك يكون بمثابة نذير شؤم وفأل سيئ. لانثمينوس يصرّ على بناء عالم غير واضح المعالِم، لكنه في الوقت عينه، يظهر الشخصيات وهي تتفاعل مع محيطها بوضوح تام ووعي شديد. ليكون كل ما يحدث جنونياً وقاسياً، غير إعتيادي، بعيداً من المنطق حتى لو أردت تصديقه.


وبالفعل، ماذا لو كنا نعيش حياة تطبق فيها قوانين صارمة وغير قابلة للتغيير؟ وكيف ستكون في ظل إستحالة تمرير الأخطاء؟ وماذا لو كان العقاب قاسياً؟ قد تكون هذه التساؤلات مألوفة. إلا أنها تصبح أساسية في مجتمع مثالي، يقوم على نظام خاص ويعمل به.عندئذ، لا يمكن تجاهل الأمر الذي بات واقعاً يصعب اجتيازه.

هذا ما يريده لانثمينوس من خلال أسلوبه وأفلامه التي تسير على خط واضح عبر المشاهد والحوارات. ومن دون شك، لا مجال للإنحراف أو الخطأ. كل شيء مقدم بطريقة مدروسة ليعطي انطباعاً، بأنه من الصعب لأي كان الخروج حياً. ولو كان القلب ينبض، فإنك كإنسان لست موجوداً، وما تبقى منك هو الجسد فقط الذي ينتظر الموت الأخير.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها