ففي كتابه الصادر حديثًا "سياسة عادل إمام.. رسالة من الوالي"(*)، يرصد الناقد والمترجم السينمائي أحمد يوسف، عبر مقالات عديدة، الرحلة التي قطعها "الزعيم" من كوميديان تقليدين إلى أيقونة جماهيرية، ثم إلى أداة في يد السلطة.
ولا يذهب أحمد يوسف إلى أن عادل إمام قد استقى شخصية المتمرد، التي لازمته في العديد من أفلامه، من السينما الهوليوودية، وإنما من التراث الشعبي العربي المليء ببطولات الشطار، ربما بوعي منه أو بغير وعي أو بمساعدة من كاتب سيناريو محترف مثل وحيد حامد الذي رافقه خلال تحولاته الفنية المختلفة. إلا أن عادل إمام راعى، في بلورة تلك الشخصية الفنية، "أن تمثل بالنسبة إلى المتفرج مثيلًا وبديلًا في آن واحد"، لأنه يشبه في ملامحه الخارجية وأزماته الداخلية رجل الشارع العادي، وينطق بما لا يستطيع المتفرج أن يبوح به، مدركًا أن الجماهير "تبحث عن أحلامها الهروبية في فتى الشاشة، الحليوة ذي الشعر المسبسب، لكن أحلام يقظتها الواقعية تتحقق من خلال نجم ساخر دائمًا ترى فيه الناس بعضًا من صورتها الحقيقية، وتشم رائحة عرقها، وتلاحظ في عينيه بقايا دموعها، وتعيش معه رحلة الصعود –الواقعية والفنية في آن واحد- من السطح إلى القمة".
وقد نجح سعي عادل إمام، من خلال استثماره شخصية المتمرد (أو كما أطلق عليها "يوسف": "الفهلوي") عبر تقديمها بعشرات التنويعات، في تحقيق شعبية جارفة، ليس داخل مصر فحسب، وإنما على مستوى العالم العربي، لأنها "تلمس، في وجدان الجمهور العربي وترًا حساسًا، عندما تستدعي إلى وجدانه ومن أعماق ذاكرته الجماعية، صورة البطل في الأدب الشعبي، كما تستدعي أيضًا شكل الحواديت الشعبية، بقدرتها على الخروج بأحداثها على المنطق الواقعي المألوف".
من حضن الجمهور إلى أحضان المثقفين والسلطة
غير أن تلك الشعبية الجارفة التي بلغت مداها في نهاية الثمانينات، لم تلق قبولاً على الصعيد الرسمي، فيما تعامل معها إعلام الدولة بنوع من "التعالي المصطنع، أو حتى بالحط من شأنها أحيانًا، حتى أنه لم تتم في تلك الفترة دعوة عادل إمام ولو لمرة واحدة لمناسبة رسمية أو مهرجان ثقافي". وفي دراسة له عن تاريخ الرقابة والمنع في السينما، سجل الناقد سمير فريد، أن المهرجان القومي للسينما، رفض مشاركة فيلم "شمس الزناتي" في العام 1991، لأنه "لا يرقى إلى مستوى العرض في المهرجان".
لكن هذا الوضع لم يدم طويلاً. ففي العام نفسه الذي شهد رفض "شمس الزناتي"، كان "النجم" يستعد لاستقبال عمله الجديد "اللعب مع الكبار"، وهو الفيلم الذي يعده الناقد أحمد يوسف بمثابة مرحلة جديدة في تاريخ عادل إمام، حينمت تصالح مع النظام. وربما يختلف العديد من متابعي السينما الجادة، مع يوسف، في ما ذهب إليه، خصوصاً أن تلك المرحلة هي التي شهدت تعاون إمام مع السيناريست وحيد حامد والمخرج شريف عرفه، ما أفرز خماسية يعتبرها البعض درة أعمال إمام، وهي: "اللعب مع الكبار، الإرهاب والكباب، المنسي، طيور الظلام، النوم في العسل". إلا أن مترجم "تاريخ السينما الروائية"، يرى أنها أفلام "تجنبت خوض المعارك الحقيقية، أو جعلتها شبه معارك، يثور فيها الغبار ويدوي فيها الصخب". كما تضمن بعضها رسائل تصالحية مع النظام. فعلى سبيل المثال، يظهر أحد رجال الشرطة، تلك التي كانت مثار السخرية في أعماله في الثمانينات، وهو يقف كتفًا بكتف مع "حسن بهلول"، ليواجه الفساد في "اللعب مع الكبار"، ورئيس مباحث العاصمة يقود الجماهير لإيصال أصواتهم إلى الحكومة. فيما يرى المؤلف أن ما يكسب هذه الأفلام بريقها، هي تلك العبارات "المتثاقفة" التي كُتبت بلسان وحيد حامد، في حين تتنافى كليًا مع خبرات وسمات الشخصيات التي رسمها عادل إمام في أفلامه الخمسة.
ولعل تلك النبرة المختلفة التي ميزت "اللعب مع الكبار" عن أعمال عادل إمام السابقة، هي ما لفتت نظر النظام إلى حجم هذا "النجم والتأثير الذي يمارسه على جمهوره، فتحول موقفهم تجاهه من النقيض إلى النقيض، فكأنهم أدركوا أنه يمكن توظيف نجوميته لصالحهم، ليجعلوه ينطق بأفكارهم ومفاهيمهم المغلوطة، أو المسطحة بفرض حسن النوايا، عن قضايا حيوية، مثل الإرهاب أو الديموقراطية أو علاقة الشعب بالسلطة، من أجل زيادة تشويه وعي البسطاء بهذه القضايا".
في حين يعتبر مترجم "الفيلموسوفي" أن الأعمال الشعبوية الأولى للنجم السينمائي، والتي تم تجاهلها في السابق من جانب النقد الجاد، باعتبارها "سوقية" لا تليق بالمثقفين، كانت تمثل منبرًا ماكرًا لتمارس الجماهير منه نوعًا من الديموقراطية الساذجة، من خلال سخرية عادل إمام من الواقع، وهو الوضع الذي تغير في مرحلته الرسمية الأخيرة، حيث "تغيرت هذه الصورة كثيرًا وإن لم تختلف كل ملامحها، فما زالت السخرية من المؤسسات التقليدية تتناثر هنا وهناك، وما زالت تلتمع أحياناً فكرة الحلم بمجتمع أكثر عدلًا، لكن ما كانت تعبر عنه الأفلام الأولى على نحو فطري وصادق، حتى ولو كان ساذجًا، يعبّر عنه اليوم بقدر كبير من الالتواء والذكاء، فقد أصبحت أفلامه مغلفة دائمًا بغلاف فني أكثر بريقًا، وهو ما يثير بالطبع إعجاب بعض النقاد بصرف النظر عن أصالتها".
من الاستهزاء بالسلطة إلى الاستهزاء بالجمهور
ولا يبدو أن النظام وحده هو الذي انتبه إلى المكانة التي بات يحتلها "الزعيم"، إذ حاول بعض السينمائيين الجادين احتواء "الظاهرة" في أفلام مثل "الأفكاتو" أو "الحريف"، لكن تلك التجارب رغم جدتها واختلافها كليًا عن مسار المشوار الفني لعادل إمام، إلا أنها لم تلق النجاح نفسه الذي حققته أفلامه الجماهيرية الأخرى. فرغم أن فيلم "الأفوكاتو" كان في جانب منه استثماراً لشخصية "الفهلوي" التي سبق أن نالت استحسان جمهوره، إلا أن إخفاق تلك الأفلام ربما يعود إلى عادل إمام نفسه الذي لعبت أعماله عمومًا على "وتر آخر، حين تنحاز إلى جانب الجماهير البسيطة، وتضعهم في تناقض مع المثقفين". كذلك، لم يسلم المثقفون أنفسهم من سخرية عادل إمام، لكنها لم تكن سخرية من انعزالية المثقف أو تعاليه، وإنما سخرية عمدت إلى تشويهه بشكل مطلق. ولعل تناوله لصورة اليساري أو الشاعر في أفلام مثل "السفارة في العمارة" و"مرجان أحمد مرجان" خير دليل على ذلك.
ولم يكن المثقفون وحدهم من انضموا إلى قطار سخرية "المنسي"ن الذي شمل الدولة ومؤسساتها ورجال أعمالها البارزين، وإنما انضمت إليهم كذلك الجماهير نفسها التي صنعت نجوميتهز إذ يتهم أحمد يوسف، أفلام عادل التي شهدت اقترانه بالنظام، بتعمّد تصوير الجماهير بوصفهم "رعاعاً يسوقهم البطل كيفما يشاء، لا فرق في ذلك بين فيلم "النوم في العسل" أو "الجردل والكنكة" أو "طيور الظلام" أو "أمير الظلام" أو "حسن ومرقص" أو أي فيلم آخر، وفي كل هذه الأفلام مشهد يتكرر: البطل يمضي في مظاهرة يختلف الهدف منها بين الفيلم وآخر، لكنها تجتمع جميعًا على تصوير الجماهير كقطعان من الدهماء، وإذا اقتربت الكاميرا من أحدهم فلكي تؤكد على بلاهته! وبالطبع فإن هذه الصورة تصب في صالح السلطة والنظام، فماذا يمكن أن يطلب منهما بينما الشعب على هذه الحالة الرثة"؟!
يقول أحمد يوسف إن عادل إمام "بدأ في أفلامه الشعبية بتصوير بطل يضطر إلى أن يكون فهلوياً ليتغلب على الظروف الصعبة الظالمة، لكنه انتهى فهلوياً مع سبق الإصرار والترصد. لقد أعطت الجماهير كل أسهمها من الحب للنجم عادل إمام، فإذا به يصنع منها شركة لتوظيف النجومية في سوق السياسة، وهو يفوز بالغنيمة وحده، حتى ولو كان الثمن أن تبكي الجماهير على أحلامها التي وضعتها بين يديه". ولا يبدو الناقد السينمائي، في كتابه، معجباً بالمشوار الفني "للزعيم" في أي من مراحله، لكنه لا يعمد إلى إطلاق أحكامه جزافاً، إذ يعتمد على تحليل دقيق للعشرات من أفلامه، وهو تحليل يتسم في جانب كبير منه بقدرة معرفية رصينة بالفن السينمائي بشكل عام. وكان الكتاب ليكون أكثر ثراءً لو عمد مؤلفه إلى رفده بمواد أكثر حيوية وحداثة مما اشتمل عليه من مقالات قديمة، كتبت كلها متزامنة مع توقيت عروض أفلام عادل إمام، وشاب بعضها الكثير من التكرار لوجهات النظر والأحكام نفسها.
(*) صدر كتاب "سياسة عادل إمام.. رسالة من الوالي"، للناقد السينمائي والمترجم أحمد يوسف، ضمن سلسلة "كتاب الهلال"، الصادرة عن مؤسسة "دار الهلال" المصرية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها