الأربعاء 2017/04/12

آخر تحديث: 12:49 (بيروت)

جيل سمير فرنجية

الأربعاء 2017/04/12
جيل سمير فرنجية
انطلقتُ في تجوال طويل، نقلني من فكرة "الصراع الطبقي" إلى مشروع "العيش معًا"
increase حجم الخط decrease
من المفارقات أن يغادرنا السياسي، سمير فرنجية عشية ذكرى الحرب 13 نيسان. وأن نقول سمير فرنجية والحرب، يعني أن نتذكره واحداً من الوجوه السياسية اللبنانية القليلة التي أعطت دروساً في نبذ "العنف" وأهمية الحوار.

فالمفكر الآتي من بيت سياسي، والخارج في وقت مبكر على التقاليد والبيئة والتخلف، والباحث دائماً عن الأفكار والمبادرات ومطلق الوثائق، الذي خرق أكثر من مرة الغيتوات السياسية من خلال الحوار، قال في احدى مقابلاته إنه ينتمي إلى جيل ما يمكن تسميته "الفكر الاعتراضي الغربي"، ومن رموزه جان بول سارتر وألبير كامو، ولم يكن ماركسياً بالمعنى التقليدي. وفي أولى سنواته الجامعية في اليسوعية، شكّل مع أخرين مجموعة يسارية حيث لم يكن هناك تواجد لليساريين في هذه الجامعة (المنطقة المسيحية الفرانكوفونية)، ويروي في كتابه "رحلة في أقاصي العنف"-منشورات شرف الكتاب: "العام 1968 كان حاسماً في مواجهة "كتائب بشير الجميل"، ففي 7 تشرين الثاني 1968، وبينما كان طلاب مجتمعين في حَرَم "المدرسة العليا للآداب" اعتراضًا على قمع تعرَّضت له إحدى منظمات المقاومة الفلسطينية في الأردن، هاجم محازبون كتائبيون أولئك الطلاب بعنف، ما أدى إلى جرح عدد كبير منهم. وأثار الحادث اضطرابًا شديدًا في البلاد، فقامت إضرابات في العديد من المدارس والجامعات، وما لبثت أن انطلقت تظاهرات في مختلف الأنحاء، لا سيما في طرابلس التي قُتل واحدٌ من أبنائها الطلاب"...

ونقلت مجلة "الديار" (من أرشيف محمود الزيباوي) في تحقيق لها، أن التظاهرات رفعت شعارات "كلنا فدائيون"، و"يا عروبة ثورية ثوري، حتى الجميل (بيار) يلحق نوري (السعيد)"... وفي تظاهرة أمام مجلس النواب، تسلق أحد المتظاهرين المبنى، وعلق فوق شعار العلم اللبناني وشعار مجلس النواب، صورة الرئيس عبد الناصر ولافتة "كلنا فدائيون"، فامتعض رئيس الحكومة (عبدالله اليافي) الذي كان يريد إلقاء كلمة، وانسحب من الشرفة قائلاً "كلهن ولاد.."، ثم تولى أحد رجال الأمن إنزال صورة عبد الناصر التي ساهمت الى حد كبير في تجييش الجمهور الكتائبي.

شغل التنازع والراديكالية بين اليساريين الجدد، والكتائبيين والبشيريين (نسبة إلى بشير الجميل)، واجهة الصحف، ولم يكن للعنف آنذاك طعم المرارة، كما صار لاحقاً. اثر التظاهرات الداعمة للفدائيين في الأردن، اتهم رئيس مصلحة طلاب الكتائب "الصهيونية والشيوعية بالتحريض على الفوضى" في لبنان، وردّ أمين معلوف على البيان الكتائبي ليصفهم بـ"العصابات المسلحة". وتطرق البيان الى اعتقال الطالبين سليم وابراهيم تركية، وقد اتهمهما اليمين اللبناني بالصهيونية وبأنهم أجانب (سليم تركية هو نفسه الروائي اللبناني الأصل سليم نصيب). ووصفت مجلة "الديار"، سمير فرنجية، بأنه "ذو ميول اشتراكية وماركسية، لكن هذه الميول هي مجرد أفكار وآراء ولا تمت الى الأحزاب اليسارية اللبنانية بصلة، كما أن هذه الميول والأفكار بعيد من السياسة والسياسيين اللبنانيين".

أيضاً، يروي سمير فرنجية أنه بعد عشرة أيام، 17 تشرين الثاني 1968، نظَّمت جريدة "الأوريان" لقاءً "وجهاً لوجه"، بين القادة الشباب الذين "أثاروا الاضطرابات... وكنتُ واحدًا من الشبَّان السبعة". وفي تقديمها لندوة "الحوار المشادَّة"، كتبت "الأوريان" ما يأتي: "هؤلاء الشبَّان السبعة، الذين تعرفون أسماءهم جيدًا، كانوا أصل الأحداث التي هزَّت لبنان في الأيام العشرة الأخيرة. لقد كانوا وجهًا لوجه في الشارع، مثلما هم الآن وجهًا لوجه في مكاتب الأوريان. أنْ يأتوا كلهم تقريبًا من جامعات فرنسية، فليس هذا محض مصادفة. ففي هذه الجامعات بالذات اندلعت المعركة بين فريقي الطلاب، حتى وإنْ جرت التظاهرات في أماكن أخرى. فرنجية، الجميِّل، غانم، حَوَّا، معلوف، مجدلاني، وبقرادوني: هؤلاء هم الذين قادوا رفاقهم من الضفتين، بمن فيهم أولئك الذين لا ينتسبون إلى جامعات هؤلاء وكلِّياتهم. كانوا الخميرة التي فعلت في العجين، وكانوا المحرِّضين بامتياز [...] كلُّهم متفقون على المطالبة بحقِّهم في الاعتراض على المجتمع". يضيف فرنجية: "كانت خياراتنا في تلك الحقبة جذرية راديكالية، ولم نكن نساوم على أدقِّ التفاصيل والفروق".... وفي مناقشة مع "فريق المعترضين" الذي كان يرفض "نظامًا مولِّدًا للكثير من التعسُّف واللامساواة" كتب جورج نقاش، مؤسس جريدة "الاوريان" عن التجربة اللبنانية فقال: "هذا اللبنان، الذي ترفضونه، هذا اللبنان كما هو – بنواقصه وتشوُّهاته والغفلة الفظيعة لدى طبقته السياسية – لا يمكنه في طبيعة الحال الادِّعاء بأنه خلق مجتمعًا عادلاً وسعيدًا. لكنه الوحيد بين بلدان الشرق الأوسط، وحتى بالمقارنة مع بعض البلدان الأكثر تقدُّمًا في العالم، الذي يمكنه أن يتباهى بكونه المجتمع الأقل فظاظةً ربما في هذا العالم". ويعلق فرنجية: "كان جورج نقاش على حقٍّ. أما نحن، في تلك الحقبة، فلم يكن في وسعنا أن نتقبَّله. سيلزمنا وقت طويل كي نفهمه".

وسمير فرنجية، المناصر للعمل الفدائي (الفلسطيني)، سيشكل اغتيال كمال جنبلاط العام 1977، محطة حاسمة في مساره السياسي: "تبين لي أن هناك من يلعب بنا، وبالتالي أصبح همّي كيف يمكن أن نضع حداً للعنف"... ولاحقاً سيقود قناة تواصل وحوار بين بشير الجميل ووليد جنبلاط... وبدأ يولي أهمية للقراءة حول مسائل العنف سيكون ملخصها في كتابه "رحلة في أقاصي العنف". وفرنجية هو نموذج للشخصيات التي عرفت تحولات في مسارها، هو إلى حد كبير، مثل كثيرين من الشبان الذين بدأوا حياتهم في اليسار (خصوصاً اليسار الجديد) وسرعان ما التحقوا بسياسة أخرى مختلفة، لا مجال هنا لتعدادها... بعض المشاركين في التنازع حول العمل الفدائي في لبنانن وصلوا الى محطات مهمة. ففي 23 آب 1982، وصل بشير الجميِّل إلى رئاسة الجمهورية، واغتيل بعد ثلاثة أسابيع من انتخابه. كريم مجدلاني، الذي كان في بيروت أثناء الحصار الاسرائيلي 1982، قُتل في 2 آب من العام نفسه. أمين معلوف، الذي كان قد غادر لبنان ليقيم في فرنسا، نال العام 1993 جائزة "غونكور" للآداب عن روايته صخرة طانيوس. وهو نفسه كان رئيس وفد الصحافيين اللبنانيين المشارك في مفاوضات 17 آيار في زمن أمين الجميل الكتائبي... مارون بغدادي السينمائي الشهير سيعود الى لبنان ويقتل إثر سقوطه في غرفة مصعد العام 1993. سليم نصيب، اليهودي اللبناني المهاجر، سيتألق في كتابة رواية بعنوان "أم" ترجمت الى العربية بعنوان "كان صرحاً من خيال"، وهي عن علاقة أحمد رامي بأم كلثوم. بعض جيل فرنجية، أصبح مع سوريا، وهناك مَن عاد الى طائفته أو جذوره... 

"أما أنا"، يقول فرنجية، "فقد انطلقتُ في تجوال طويل، نقلني من فكرة الصراع الطبقي إلى مشروع العيش معًا، فأرسيتُ – على ما أزعم – نهجَ تواصل وحوار بين اللبنانيين، وانصبَّ جهدي على تحضير التربة الصالحة لتكوين معارضة وطنية متعددة الأطياف والطوائف ضد الوصاية السورية على لبنان... وفي 18 شباط 2005، بعد أربعة أيام على اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، رأيتُني أعلن باسم المعارضة، انتفاضة الاستقلال، التي ستكون البشارة الأولى للربيع العربي".

هذا باختصار، هو جيل سمير فرنجية، الذي ربما يشكل مادة غنية لسلسلة كتب...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها