الخميس 2017/03/30

آخر تحديث: 14:54 (بيروت)

عن تساي مينغ ليانغ.. أخطر رجل ماليزي حيّ

الخميس 2017/03/30
increase حجم الخط decrease
يشكل عالم المدينة المجال الحيوي الممكن لإنسان اليوم، فيه ومن خلاله تتحقق المعاني السائدة للحياة بصفتها تجربة في الصخب والإثارة وإرادة السعادة والانهيار، بلا تمييز بين أغنياء وفقراء، سادة وعبيد، غير أن التزييف الناجح لحياة الأغنياء والسادة يصنع قناعاً مناسباً لإخفاء الانهيار، بينما تبقى عوالم المهمّشين وحيواتهم بلا أقنعة.


سينما تساي مينغ ليانع، "أخطر رجل ماليزي حيّ" كما يحب البعض تسميته، تتأسس على تلك الحقائق: "مدننا تتغير كل الوقت، وكأننا نعيش في بطن وحش عملاق... إنها تذكرنا بما نخسره"، ولهذا: "أحب أن أصنع أفلاماً عن المهمشين، لأنهم جزء من حياتي وجزء مما أنا عليه". لكن هذا الأمر لا يمثل مسألة كفاح اجتماعي في عمل الماليزي متعدد الأصول الإثنية (تقدمه بعض المواقع المتخصصة كتايواني، وهو مولود في ماليزيا من الإثنية الصينية).

لا توجد أي شبهة تحريض أو رغبة في التمرد على الواقع في سينما مينغ ليانغ، ما يجعل أعماله نموذجاً لمقولة الفن للفن في صيغتها الراقية، تضعه في مستوى السينمائيين الذين حوّلوا السينما إلى سؤال حول الوجود نفسه. هو، على أيّة حالة، يتحدث عن تأثّره بسينمائيي الموجة الجديدة في فرنسا، وفيلمه المفضل هو The 400 Blows لفرانسوا تروفو. لكن أيضاً، وبطريقة ما، يمكن اعتبار أندريه تاركوفسكي وانغمار بيرغمان وأكيرا كوروساوا أسلافاً أصيلين للسينمائي "الشاب" المولود في العام 1957.

يجد صاحب "كلاب ضالة" في الصمت جواباً عن السؤال الذي يطرحه على نفسه كل مبدع أصيل: ما هو الفن في حياة تبدو كتجربة في الصخب والإثارة وإرادة السعادة. لا يمكن العثور في أفلام مينغ ليانغ على قصة بالمعنى المتعارف عليه للقصة السينمائية: "ليست لدي شهية تجاه إخراج الأفلام كمجرد وسيلة لسرد القصص"، ما يلغي أي مبرر للكلام/الحوار، فالفيلم يصنع نفسه بالصمت والصورة.

يستعيض مينغ ليانغ عن غياب الحكاية بالواقع المديني، باعتباره تجسيداً للامعقول الإنساني ومصدراً لا ينضب من مصادر الدهشة، ما يجعل السينما، الفن، مجرد كاميرا ترصد اللامعقول بطريقة خطيّة، وبذكاء جمالي، وبحساسيّة شعريّة تبلغ ذروتها في الصمت والمشهد/ اللقطة الطويلة.

يدوم المشهد الأخير في فيلم "كلاب ضالة"، وهو التحفة الفنية لمينغ ليانغ وآخر فيلم طويل أخرجه (2014)، أربعة عشر دقيقة، بلا كلمة واحدة، تكتفي خلاله شخصيتا الفيلم الرئيسيتان بتأمل غرافيتي يمثل عالماً رعوياً وغابات، مرسوماً على جدار داخل بناء مديني مهجور، فيما يبدو تصاعد انفعالاتهما كتيار يهدر وسط الصمت التام. أربعة عشر دقيقة تتحدى صبر المشاهد وتجعله يبتلع، بالقوّة، جمال الانفعال الصامت، كما وتتحدى السائد في عمل الكاميرا السينمائية اليوم.

الشعريّة السينمائية لمينع ليانغ تجد كثافتها القصوى في البكاء أيضاً. في فيلم "يحيا الحب' مثلاً، تذهب إحدى شخصيات الفيلم الرئيسة (فتاة تعمل دلالاً عقارياً وهي واحدة من ثلاثة شخصيات تتشارك عَرَضاً السكن في شقة واحدة) إلى مكان عام، وتبدأ بكاءاً طويلاً ومريراً دون مبرر درامي واضح، فلا حاجة لذلك في عالم المدينة، حيث كل لحظة مناسبة للبكاء وحيث كل الدموع مبررة، بينما يبقى مشهد "ممارسة الجنس مع الملفوف" أو "اغتصاب الملفوف" أكثر مشاهد "كلاب ضالة" سحراً وغرابة وأصالة إبداعية، مترافقاً مع صوت هطول الأمطار ومختتمَاً بالبكاء.


أصبح مينغ ليانغ واحداً من أبرزالمخرجين العالميين بدءاً من العام 1990. شاركت أفلامه بانتظام بمهرجانات في جميع أنحاء العالم، وحصل على إعجاب النقاد، ما أهلّه للفوز بجائزة مهرجان البندقية في العام 1994 عن فيلم "يحيا الحب"، وبعد ثلاث سنوات حصد جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي عن فيلم "النهر"، فيما حصل على جائزة الاتحاد الدولي لنقاد الأفلام عن فيلم "الثقب" في مهرجان كان، هذا فضلاً عن عشرات الجوائز في مهرجانات أخرى لا تحظى بسمعة دوليّة كبيرة.

بالنسبة الى الجمهور، يقول مينغ ليانغ: "عندما عرضت فيلمي الثاني "يحيا الحب" في سنغافورة، كان في القاعة 1500 مقعد، وخرج بعد وقت قصير 500 شخص. بعد تسع سنوات، وعند عرض "وداعا للتنين إن" تابعه الجمهور الى النهاية. أعتقد أن الجمهور بدأ يعتاد ويفهم ما أحاول القيام به". لكن هذا لن يمنعه، بُعيد إخراج "كلاب ضالة"، من التصريح برغبته في "اعتزال عالم السينما، لأن الضغوط الخاصة بصناعة أفلام قابلة للنجاح تجارياً تتعارض مع مبادئي الفنية".

لم يحصل هذا فعلياً، فقد عاد مينغ ليانغ وأخرج ثلاثة أفلام قصيرة وفيلماً وثائقياً، ربما لأنه "واثق من أن الجمهور سيقلع عن مشاهدة الأفلام الأميركية، ذات الإيقاع السريع، ويتجه إلى الأفلام الأقل سرعة، فالبطء شيء جميل للغاية مثل التقدم في العمر". عن نفسه، يقول مينغ ليانغ: "أشعر أنني مواطن عالمي. ليس هناك مكان واحد أضع جذوري فيه وأدعوه وطناً. لا أملك أي شيء. لست صاحب منزل. لقد استأجرت دائماً، ولم أبق في مكان واحد لفترة طويلة، ولدي دوماً، حيث أقيم، تسربٌ في المياه أو فيضانات!".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها