الأربعاء 2017/02/01

آخر تحديث: 12:57 (بيروت)

"أنا، دانيال بلايك": تقييد السينما لفضح الواقع

الأربعاء 2017/02/01
"أنا، دانيال بلايك": تقييد السينما لفضح الواقع
كان من الممكن تحويل الفيلم من خلال حبكته إلى مقطوعة كافكاويّة
increase حجم الخط decrease
انطلق مهرجان الأفلام الأوروبيّة السنوي في بيروت، في صالة ميتروبولس في موسمه الجديد، ويحتوي على مجموعة من الأفلام الحائزة جوائز في مهرجانات أوروبيّة. أهمّها الفيلم البريطاني "أنا، دانيال بلايك" للمخرج كين لوتش (جائزة السعفة الذهب 2016، والجائزة الكبرى في مهرجان "كان").

يبدأ الفيلم في إطار أسود، تمرّ عليه أسماء صانعي الفيلم بينما يعرض الشريط الصوتي مقابلة يجريها دانيال بلايك، نجّار في العقد الخامس، مع موظّفة الرعاية الإجتماعيّ لطلب الحصول على إعانة ماليّة بينما يتعافى من ذبحة قلبيّة. يسرد الفيلم جهود بلايك في الحصول على حقوقه الإجتماعيّة وحفاظه على كرامته الشخصيّة بعد رفض الموّظفة لاستمارته. تحمل مقدِّمة الفيلم طرح كين لوتش السينمائي: التقليل من التشكيل الصوري واستعمال حوارات تتضمّنها بعضًا من الفكاهة والكثير من الدراما الإجتماعيِّة، لتمثيل الواقع وفضح نظام الإعالة الإجتماعيّة في بريطانيا المعاصرة.

الممثِّل الرئيس للفيلم هو دايف جونز، كاتب ومؤدّي كوميدي من نوع الستاند أب كوميدي، الأمر الذي أسعف الفيلم من ناحية تطويق الدراما المعيشيّة القاسية بالفكاهة المحكيّة. أمّا كاتب سيناريو الفيلم وحواره، أي أساس عقيدة سينما لوتش الواقعيّة اجتماعيّة، فهو بول لافرتي شريكه الأكبر لفيلموغرافيا العقدين الأخيرين.

كتب لافرتي 12 فيلمًا من أصل آخر 13 فيلماً للوتش. بعد دراسته المحاماة والفلسفة، عمل لافرتي في الثمانينات محاميًا في نيكاراغوا، مسجِّلًا انتهاكات حقوق الإنسان خلال الحروب الأهليّة والصراعات في  نيكاراغوا، غواتيمالا، والسالفادور. خبرته في الشؤون الإنسانيّة جعلته يكتب فيلمه الأوّل "أغنية كارلا"، الذي تدور أحداثه بين بريطانيا ونيكاراغوا، أثناء صراعات الثمانينات وكان فاتحة شراكته الفنيّة ولوتش الذي أخرج الفيلم العام 1996. يتميّز عمل لافرتي، بالتدقيق في تفاصيل حيوات شخصيّاته التي دائمًا تكون من الطبقة العاملة ضمن حبكة واقعيّة تقارب سينما "الواقعيّة الإشتراكيّة"، وقد حاز جائزة أفضل عام 2002، سيناريو لفيلم “عمر الستة عشر الجميل” (sweet sixteen) ضمن مهرجان كان، من إخراج كين لوتش أيضًا.

 
الواقعيّة المطلقة لكتابات لافرتي - عدا فيلم "البحث عن إريك"، حيث يظهر شبح لاعب كرة القدم إيريك كونتونا على الشخصيّة الرئيسة، ويلهمها لتغيير مسار حياته- تقترح على مخرجها لوتش خيارين في التشكيل التصويري، تنقسم بينهما فيلموغرافيا لافرتي-لوتش. الأول هو التصوير المستعار من الأفلام التسجيليّة و"سينما الحقيقة"، وهو التشكيل الذي اشتهر به المخرج حتى أصبح ُيشار إليه كأحد أكبر صانعيه، مثلما حين أعلن المخرج الأميركي ستيفن سودربرغ عن اقتباسه هذا الأسلوب الإخراجي لفيلمه "تهريب" تيمُّنا بأسلوب لوتش. وهو التصوير بكاميرا متحرّكة يحملها المصوّر على كتفه ويلحق بها الممثلون كما لو أنّ الأحداث تحصل بشكل عفوي ومباشر لاعطاء الشعور بالغوص في الواقع. هذا التشكيل يناسب الأفلام التي تتأزّم بها الأحداث حتى تخلق تخابطًا من الشخصيّات مع واقعها وإثارة عنيفة للتغيير من قبلهم. أمّا التشكيل الثاني وهو الذي ينتمي إليه فيلم "أنا، دانيال بلايك" أقلّ تواطؤاً مع حركة الممثلين، تنسحب فيه الكاميرا إلى مسافة المتفرّج الذي يمسح بنظره العالم الممثَّل أمامه. يناسب هذا التشكيل سرديّة دانيال بلايك، الذي تضيع حقوقه الإجتماعيّة، بين دهاليز البيروقراطيا بلا حولٍ ولا قوّة. تُلاحق الكاميرا جسد بلايك من مكان إلى آخر من دون التدخُل في مساحته حتّى انّها لا تصف المكان المصوّر، بل تقوم فقط بدورها الأوّلي، خلق الإطار التصويري وتسجيل الحركة التي يقوم بها الممثِّل داخله. حتّى الشريط الصوتي أقلّي ومتوار، محيط واقعي وملاحقة صوتيّة لتحديد خطوات الشخصيّة الرئيسة. التوليف الشفّاف - (كما سمّاه أندريه بازان) - يجعل لوتش من أتباع السينما-الحركة، فلا يخلو أي مشهد أو إطار من حركة سرديّة بحيث يكون فقط لمتابعة السرد وخلق إيقاع متوازن مع الأحداث. حتّى في المشاهد التي ينتظر فيها بلايك دوره عند موظفي الضمان، ليس في المشهد زمن الإنتظار، بل تحرّكات جسد بلايك وما من حوله داخل الانتظار. كما لو أنّ للوتش مأخذًا واضحًا من دور سينماه: التحديق بالواقع دون المسّ فيه لفضحه.

كان من الممكن تحويل الفيلم من خلال حبكته إلى مقطوعة كافكاويّة، لو أُتيح للسرد الدخول إلى ذهنيّة الشخصيّة، لكنّ لوتش يأبى التلاحم مع نفسيّة الفرد، فيبقى في خارج الذات الممثّلة لإظهارها كجزء من الجماعة، ضمن حيطته من تلويث دراسة عالم دانيال بلايك الخارجي بالولوج إلى عوالمه الداخليّة. للتأكيد على فساد النظام، لا مكان في سينما لوتش للتساؤل الذاتي ولا زمان مخصّص للتشكيك بالذات بينما كان من الممكن لدانيال بلايك مراجعة ثقته في "السيستم". في سينما لوتش تغييب للدراما الذاتيّة من أجلِ إظهار ذنب نظام إجتماعي متعجرف. يصل التغييب إلى حدّ الاقتراب من شبه تغييب للذات الإخراجيّة فيختفي المخرج داخل المسافة التي وراء الكاميرا المبتعدة، كما لو هو أيضًا من المشاهدين الشاهدين على رداءة الواقع.

شخصيات الفيلم إمّا ضحايا النظام، وهي بريئة منه، أو هي التي تنفذ النظام وهي بالتالي بحِدّة النظام وقسوته، باستثناء موظّفة واحدة كادت أن تطرد بسبب تعاطفها. لا يساوم الفيلم في اتهامه "السيستم"، وحينها لا يساوم بما يقترحه على المتلقّي: تماهٍ مع الشخصيّات وتعاطف كامل مع مأساتها ومن خلال هذا التماهي، يصبح المتلقّي متماهيًا مع براءة الشخصيّات وبالتالي بريئًا من "السيستم". ربَّما هذا ما تماهت معه لجنة تحكيم مهرجان "كان"، فأعطت الفيلم جائزتها الكبرى، فكان في تلك الجائزة وفي سينما لوتش الشعبويّة اليساريّة، ردًّا على حال أوروبا التي طفحت فيها الشعبويّة اليمينيّة. وفي هذا المحيط الأوروبي، أثار الفيلم جدلًا كبيرًا حين عُرِض في بريطانيا حول حال النظام الإجتماعي وكان الفيلم-الدلالة للتيارات اليساريّة المدافعة على حقوق الطبقة العاملة.

سينما كين لوتش، هي سينما مرآة المجتمع ضمن تمثيله، ونافذة على الواقع. ربّما لهذا، هناك ما هو جميل في كيفيّة دخول الضوء الطبيعيّ من النوافذ في أفلامه. قد تكون طبيعيّة هذا الضوء أكثر عذوبة من واقعيّة الأحداث التي تنيرها، أو أنّ شيئًا منها هو دعوة إلى القفز من النافذة إلى واقعٍ آخر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها