تأتي مذكرات المشاهير وأوراقهم المجهولة ويوميات الاعترافات والسير الذاتية والتراجم، وما يدور في هذا الفلك الاستعادي المثير، لتشكل ما يمكن وصفه بالطوفان الكاسح في حركة النشر في مصر والعالم العربي في الآونة الأخيرة، بما يعكس توجهًا ماضويًّا عامًّا تتعدد دلالاته.
ومما لا شك فيه أن مثل هذه الأوراق والكتب، المقترنة عادة بنجوم الصف الأول من الأدباء والسياسيين والفنانين، تزداد أهميتها بريقًا، وبريقها أهمية، كلما كانت الأسرار والأمور الخفية التي تكشفها أكثر وأخطر، وتتوفر فيها عناصر المفاجأة والتشويق، وهذا بدوره يقدم وجهًا من وجوه تفسير تمسُّح أغلبية هذه الكتب بالماضي، فكلما بعدت الأحداث والوقائع زمنيًّا عن عهدنا الراهن كلما تعددت خفاياها، وصارت خباياها بحاجة إلى نفض التشكك وإزالة الغبار، ونشر النقائض من الدلائل والقرائن والحكي والقيل والقال.
على أن تلك النزعة الماضوية المفرطة تبررها تأويلات أخرى بطبيعة الحال، لا تخلو من صحة، منها أن التاريخ يبدو بحد ذاته أحيانًا شرطًا من شروط النجومية، فقطاع كبير من جمهور المتلقين للفنون والآداب، وحتى من متابعي السياسة وعاشقي زعمائها وخطبائها، يميلون إلى تقديس القديم، ويقبلون على تتبع نتاج الغابرين وتقصي آثارهم وأخبارهم، بغض النظر عن الوزن الموضوعي لما يحرصون على متابعته من حيث القيمة المجردة أو حتى الإفادة أو التسلية.
انكباب القرّاء والمتابعين على أوراق وكتب الماضي يفسّره أيضًا، من جانب ثالث، خلو المشهد الراهن من بدائل على الدرجة نفسها من الثقل والجماهيرية، في ميادين السياسة والآداب والفنون التي تعاني تكلسًا وخواء في اللحظة الآنية، الأمر الذي دفع المنتمين إلى واقع بائس نحو مزيد من الاغتراب والفصام والارتداد إلى الوراء، فالفراغ المحدق حادّ وقاهر، وفي الأحاديث المكرورة "عن الزمن الجميل" منافذ وهمية للعثور على ما هو غائب ومفقود، بما يشبه اصطياد الحياة من توابيت الموت، ثقة بأن التحنيط يحفظ المومياوات والأرواح من التلف.
تجاريًّا، هذا التسويق الماضوي رابح أيضًا بامتياز، فهو يلبي رغبات أعداد غفيرة ممن تعلقت قلوبهم بشكل كامل بما لم يعد له وجود، بوصفه الأفضل والأصفى مما هو كائن، والأسهل في الوصول إليه من محاولة بلوغ ما هو محتمل أو ما سوف يكون.
عددان متتاليان من أسبوعية "أخبار الأدب" المصرية، جاءا تكريسًا ماضويًّا لأوراق المذكرات والاعترافات والأسرار، فغلاف العدد الأخير (الأحد 26-11-2017) مخصص بالكامل للتنويه عن نشر "سيرة محمد سلماوي.. يومًا أو بعض يوم"، وكذلك نشر "السيرة الذاتية لشيخ التربويين حامد عمار"، فيما جاء تنويه العدد السابق من الدورية ذاتها (الصادر في: 19-11-2017) متمحورًا حول ملف "كامل الشناوي.. المذكرات الناقصة".
وبالنسبة الى الكتب الصادرة بالعربية حديثًا في هذا الإطار المكرّس للماضي وحكاياه وأحاديثه، يكفي استعراض عدد من العناوين الرائجة على سبيل المثال لا الحصر: "كتابيه - مذكرات عمرو موسى" (دار الشروق)، "هيكل – الوصايا الأخيرة" (أنور عبد اللطيف، دار بتانة)، "الصبيّ الذي كنتُ" (السيرة الذاتية للشاعر محمد فريد أبو سعدة، دار النابغة)، "الجواهر من رسائل فان جوخ" (ترجمة: ياسر عبد اللطيف ومحمد مجدي، الكتب خان للنشر والتوزيع)، "نجيب الريحاني – المذكرات المجهولة" (شعبان يوسف، بتانة)، "بيت حافل بالمجانين" (حوارات مع أدباء عالميين، ترجمة: أحمد شافعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب)، "ليالي نجيب محفوظ في شبرد" (إبراهيم عبد العزيز، بتانة)، "يومًا أو بعض يوم - السيرة الذاتية لمحمد سلماوي" (دار الكرمة)، "فرناندوا بيسوا - رسائل ونصوص" (ترجمة: وائل عشري، الكتب خان).
ليس ممكنًا بطبيعة الحال وضع هذه الأعمال جميعًا فوق طاولة واحدة، والتعاطي معها بوصفها نماذج تتماثل في معطياتها وتوجهاتها، فهذا غير مقصود ولا منطقي، فهذه الأوراق والكتب والمؤلفات والمترجمات تتمايز فيما بينها بما تقدمه من جهود علمية وتوثيقية جادة، ومعلومات مفيدة، وأحداث وتحليلات ثرية تتعلق بشيوخ ورموز السياسة والأدب والفن، العرب والعالميين.
المشترك هنا هو فعل التوجه ذاته، إلى نافذة الماضي وأبطاله، وليس طبيعة تلك الإطلالة، التي قد تكون إطلالة متعمقة رصينة في حين، وقد تكون التفاتة متعجلة، خفيفة أو عابرة أو مثيرة، في أحيان أخرى.
ولعل هناك خيطًا دقيقًا بين الجد والهزل، أو بين الرصانة والإثارة، أو بين "المعلوماتي" و"المحكيّ حرفيًّا"، في مثل هذه الكتب والأوراق، وهذا ما يمثل منعطفًا خطرًا فيها إذا أراد باحث أو مؤرخ الاعتماد عليها بشكل قاطع دقيق.
هذا الخيط الرفيع يوضحه، على سبيل المثال، اعتراض ابنة نجيب محفوظ على ما ورد في كتاب "ليالي نجيب محفوظ في شبرد" لإبراهيم عبد العزيز على لسان أبيها محفوظ، بأنه "إن لم يكن أديبًا لتمنى أن يكون لاعب كرة قدم"، فهي لا تنكر أن محفوظ "ربما" قال هذا الكلام في مجلسه، لكن ما تنكره أن يرد هذا الحديث وكأنه يحمل "معلومة"، في حين أن المقصد هو "الدعابة لا أكثر"، ومن فهي تتحفظ على نشر أقوال لم يكن في نية أصحابها نشرها.
في كثير من جوانبها، تتبسط كتب وأوراق المذكرات والاعترافات واليوميات والسير الذاتية والتراجم في لغتها، كونها تروي الحياة مثلما حدثت، وتخاطب العاديين وغير المختصين جنبًا إلى جنب مع ذوي الاهتمام النوعي، ولذلك فإنها تحفل بعوامل الجذب والتشويق والإثارة، وتأتي عباراتها سردية تسلسلية قصيرة، لتقدم المعلومات في كبسولات مغلفة بمكسبات طعم مستساغة المذاق، غير مهملة الجانب الترويجي والتسويقي، ومغازلة سوق "الأكثر مبيعًا"، وهنا يصير التاريخي والتوثيقي دائمًا في اختبار صعب.
تلك الطبيعة الخاصة أو التوليفة التي تحكم هذه الكتابات، تخرج بها من إطار التقريرية أو النقل المباشر إلى دائرة الالتفاف حول القارئ واستمالته بالعناوين الجذابة والوقائع والأحداث الساخنة والأسرار المجهولة، فها هي بعض مداخل "سيرة محمد سلماوي.. يومًا أو بعض يوم"، كما أوردتها "أخبار الأدب": "سنوات المراهقة هي سنوات التكوين الحقيقية، التي شكلت وجداني ومشاعري الأساسية في الحياة"، "كنت أشعر تجاه والدي بمشاعر متناقضة، حيث كنت أكره فيه تسلطه، وما كنت أشعر أنه ظلم لوالدتي، لكني كنت أعجب بقوته وبنجاحه في عمله"..، "لم يكن إحسان عبد القدوس كاتبي المفضل، لكنني كنت أعجب كيف يستطيع أن يكتب كل أسبوع قصة جديدة".
وتأتي "المذكرات الناقصة" لكامل الشناوي، في الدورية الأسبوعية ذاتها، بمداخل وعناوين تمضي في السياق ذاته من الاختزال والإثارة، والحكي المفضي إلى قصص ووقائع طريفة خاضها الرجل في حياته أو شاهدها أو رواها، ومن عناوين وفصول المذكرات: "خناقة بين شوقي والعقاد والمازني حول عبد الوهاب.. المازني: عبد الوهاب صدره ضيق، ولا يصلح للغناء، إنه يصلح فقط أن يكون مريضًا"، "شاعر حزين وكاتب مرح.. صديق الليل والحياة والفن"، "تحقيق صحفي ينشر بعد 34 سنة"، "بدأت الغارات الجوية فهرب عبدالوهاب من العباسية إلى الإيموبيليا!".
من جهته، يقدم الشاعر محمد فريد أبو سعدة سيرته الذاتية في كتاب "الصبيّ الذي كنتُ" بسرد قصصي شيق، موغلًا في تفاصيل طقوس الشعر "القصيدة تباغتني كلسعة السيجارة، وكثيرًا ما تأتي كزائر الفجر". ويكشف الشاعر المسكوت عنه من علاقاته الاجتماعية والأسرية، وأيضًا العاطفية، كما في واقعة افتتانه بفتاة قبطية في مطلع شبابه، وهروبه من مقابلة "القس" الذي كان في انتظاره بطلب من الفتاة!
ويعد كتاب "هيكل – الوصايا الأخيرة" لأنور عبد اللطيف بمثابة "استثمار" لعمل المؤلف الصحافي بالقرب من هيكل، أيقونة الصحافة بمصر، ومن خلال يوميات "الأستاذ" يقتنص الكاتب آراء هيكل حول قضايا سياسية ومجتمعية ومهنية، يسردها على نحو عام، كما يصف بعض سلوكياته وردود أفعاله إزاء البشر والمواقف، ويرى عبد اللطيف أن كتابه مجرد "مشاهدات وجدانية وقلبية في عقل وقلب هيكل"، ومن خلال تلك المشاهدات تمكن الكاتب من تدوين وصايا هيكل الأخيرة في ميدان صاحبة الجلالة، وجاءت في شكل عناوين فضفاضة بدون تفصيل أو تحليل.
وإلى حقل الفن، حيث كتاب "نجيب الريحاني – المذكرات المجهولة" لشعبان يوسف، وهنا ماضيان يتواجهان، وليس ماضيًا واحدًا، فهناك نسختان من مذكرات الريحاني؛ الأولى التي يحققها الباحث صدرت في العام 1949 عقب رحيله عن دار نشر مغمورة هي دار الجيب، والثانية التي يفندها ويكذبها، صدرت في العام 1959 عن دار "الهلال". ويسعى الباحث إلى تقديم بورتريه حقيقي للفنان، يعبر عن رؤيته لنفسه بأسلوب جذاب: "تسلية للذين أحبوني، وشاقهم أن يروا صورتي بغير ماكياج، وتذكرة للذين سيحيون من بعدي، حينما يروق لهم أن يطالعوا قصة دراما ضاحكة، عذابها أعذب من راحتها".
بدورها، ترسم "رسائل فان غوخ" التي ترجمها ياسر عبد اللطيف ومحمد مجدي، صورة نابضة للفنان الهولندي، وتحوي الرسائل اضطرابًا جميلًا ومثيرًا، كشأن لوحاته، بما يعكس الحياة المضطربة التي عاشها متنقلًا بين قرى الريف الهولندي والبلجيكي والإنجليزي، ومدن أمستردام ولاهاي ولندن وانتويرب. ويهتم الكتاب بإبراز قيمة هذه الرسائل (الكشف الأدبي) التي توضح أهميته كأديب، والتي "تأخر اكتشافها لأكثر من مائة وعشرين عامًا بعد رحيل فان جوخ في العام 1890، ليتأجل إعلان فان غوخ أديبًا بارزًا مثلما تأجل من قبل إعلان أهميته كرسّام فذ لسنوات ليست قليلة".
ويحفل كتاب "فرناندو بيسوا – رسائل ونصوص" الذي ترجمه وائل عشري، بالجديد والمثير حول أدب بيسوا وحياته الغامضة، بعدما ملأ الدنيا وشغل الناس بالكتابة بأسماء مختلفة ولغات متعددة، طارحًا تساؤلًا جاذبًا يقود إلى سراب: من هو بيسوا الأصلي؟ إنه أربعة أشخاص على الأقل! ويسعى الكاتب إلى اكتشاف أغوار بيسوا الحقيقي من خلال رسائله المجهولة إلى معشوقته وملهمته "أوفيليا"، وأوراقه الخاصة المجهولة.
وإلى ميدان السياسة، حيث تأتي مذكرات السياسي عمرو موسى حاملة عنوانًا غير تقليدي "كتابيه"، ويتم تسويق المذكرات صحفيًّا على نطاق موسع بنشرها كحلقات مسلسلة في صحيفة "الشروق"، قبل أن يصدر مجلدها الأول في كتاب موسوعي كبير، مع إشارة ترويجية إلى أن هذه المذكرات لـ"كل العهود والعصور التي عايشها موسى"، وأنها "ستكون أساسًا لمناقشات كثيرة في السياسة والتاريخ وحتى اللغة"!
وكغيره من كتب المذكرات، يسعى كتاب موسى إلى التحليق الجماهيري من خلال الإثارة الصحفية والتعميم والإخبار عن أمور غير معروفة، وليس من خلال التحليل والتوثيق والتعمق، ويتم تسويق "الحلقة" عادة من خلال عناوين براقة، من قبيل: "نشأتي مرتبطة بحزب الوفد وزعاماته التاريخية"، "خطبت في الجماهير وأنا ابن السادسة والتقيت مصطفى النحاس ومكرم عبيد وفؤاد سراج الدين"، "عبد الوهاب مطربي المفضل وأحببت السينما ودخنت أول سيجار فى الثالثة عشرة"، "هزيمة يونيو أثبتت أن حكم الفرد لا يمكن أن يحقق التقدم والأمن"، "تعرضت للتهميش في عهد محمد إبراهيم كامل ولم أشارك فى مفاوضات كامب ديفيد"، "تعمدت القهقهة مع مندوب فلسطين علنًا فكسرت مساعيه مع جبهة الرفض لتطويق وعزل مصر بعد اتفاقيات السلام".
مذكرات المشاهير ويومياتهم وأوراقهم المجهولة، بضاعة رائجة جماهيريًّا على طول الخط، وصناعة يمكن أن تكون ثقيلة بمعطيات أخرى تتمثل في مزيد من العمق والحرص على القيمة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها