السبت 2017/12/16

آخر تحديث: 21:55 (بيروت)

"في محبة فنسنت".. تحفة سينمائية ناقصة

السبت 2017/12/16
"في محبة فنسنت".. تحفة سينمائية ناقصة
الاستسهال في كتابة السيناريو، جعل النتيجة تبدو أقرب إلى حكاية
increase حجم الخط decrease
"لا يمكننا التعبير إلا بواسطة لوحاتنا"
(فنسنت فان غوخ في رسالته الأخيرة لأخيه ثيو)

 الريادة عبء كبير، وأن يحمل عملك الفني لقب "الأول"، فذلك يعني انتظاراً سابقاً لظهوره وتفحصّاً دقيقاً يلي خروجه إلى الناس. هذا ما يحدث حالياً مع فيلم "في محبة فنسنت"(*) لمخرجيه دوروتا كوبيلا وهيو ويلشمان، الفيلم الذي طال الحديث عنه، حتى قبل اكتماله، مصحوباً بمعلومات تحمل في طياتها شغفاً وانبهاراً مزدوجاً بموضوع الفيلم وطريقة إنجازه. أكثر من سبب ممكن لإثارة الاهتمام بهذا الفيلم، تقنياً وفنياً، فموضوعه هو الرسام الهولندي فنسنت فان غوخ، وكل ما في الفيلم يحيل إليه، وبعد 127 عاماً على وفاته المبكرة لا يزال"أبو الفن الحديث" مثاراً للبحث والتقديروالإلهام.

خمس سنوات كاملة استغرقها الفيلم كي يكتمل، وأكثر من 100 رسّام احتاجهم كي يعيدوا إحياء لوحات فان غوخ على الشاشة بالتقنيات نفسها التي كان يُنجز بها أعماله، وعدد من نجوم السينما الناطقة بالإنكليزية منحوا أصواتهم لشخصيات خرجت من لوحات الرسّام الهولندي لتؤكد على ما أراده الفنان قبل 200 عام، حين قال في إحدى رسائله لأخيه ثيو: "أريد التأثير في الناس عبر فني، وأن يقولوا إن مشاعره عميقة وحنونة". المشاعر العميقة والحنونة ستحضر في الفيلم، مدعومة بموسيقى كلينت مانسيل التي لم توظّف سينمائياً من قبل بشكل أفضل من الذي ظهر هنا، وبمتواليات بصرية تسبح في الضوء المميز لأعمال فان غوخ، نتاج سنوات من العمل الدؤوب لإنجاز آلاف اللوحات التي خيطت معاً لتشكيل صورة سينمائية تتابع الأيام الأخيرة في حياة الرسام الهولندي المنتحر في عامه السابع والثلاثين. مثلاً، لقطة من لوحة "ليلة النجوم" تفتتح الفيلم، قبل أن تقفز الكاميرا إلى الأسفل لإظهار معركة من شأنها أن تبدأ السرد. 93 لوحة أخرى ستظهر بتوالي الحكاية، مقدمةً متعة إضافية للمتفرجين يستطيعون عبرها استكشاف وتسمية هذه اللوحات والوقوف على تحايلات صناع الفيلم على عدد من الأماكن، بتغيير زوايا التصوير أكثر من مرة لتظهر هذه الأماكن كما هي تقريباً في اللوحات.

تبدأ حكاية الفيلم بعد عام من وفاة فان غوخ، حينما يكلّف ساعي البريد العجوز ابنه الشاب أرمان رولان (دوغلاس بوث) بتوصيل رسالة فان غوخ الأخيرة إلى شقيقه ثيو. لكن ثيو مات بعد 6 شهور من وفاة فنسنت، وحينما يكتشف رولان ذلك سيبدأ البحث عن شخص مقرّب آخر لتسليمه الرسالة. تنطلق سردية الفيلم من شكوك حول مقتل فان غوخ وليس انتحاره، كما أُشيع عنه، وهي الشكوك التي ستأتي إلى رولان بعد أن يخطو قليلاً في رحلته لإيصال "رسالة كتبها شخص ميت إلى شخص أخر ميت". يقوم الفيلم بتدبير مقابلات خيالية تجمع رولان بشخصيات عرفت فان غوخ في مشوار حياته القصير، وكل واحد منهم سيعطيه جانبه الخاص من الحقيقة، ليكون عليه البحث عن الحقيقة نفسها. في رحلة البحث هذه، سيكتشف رولان ذاته، بالتوازي مع اكتشاف جوانب مخفية في حياة فنسنت فان غوخ ستجعله محطّ تقديره وتعاطفه، بعد أن كان لا يرى فيه سوى فنان مجنون قطع إحدى أذنيه وألقاها بين يدي فتاة هوى سخرت منه.


"في محبة فنسنت" يجسدّ ذلك النوع من الإنجاز الذي لا ينكره إلا أعمى، ولكنه مذهل من الناحية النظرية لا الواقعية. حيث يفرض الفيلم حالة من الخنق الفكري حرفياً، في سبيل استمرار الدفع بحكايته نحو نهاية تستأنف في طريقها تلك اللقاءات المتخيلة التي يجريها رولان الشاب مع مَن خلَّدهم فان غوخ في لوحاته وقت إقامته في قرية أوفير شيرواز الفرنسية التي سيشهد أحد نزلها الرخيصة موته متأثراً بجراحه بعد إصابته بطلقة نارية. شخوص يتتالى ظهورهم، وحكاياتهم، وتفاصيلهم، واستدعاءات زمنية تأتي بالأبيض والأسود لترميم حكاية كل واحد منهم حول فان غوخ، لنكون أمام فيلم تشويقي يعاني حالة فصام حاد بين بصريته الباذخة وتقليدية حبكته، تتويجاً بخلوه من الإجابة النهائية التي تكشف الحقيقة أو تقدّم جديداً.

حياة فان غوخ يمكن العثور عليها في فنه ورسائله. تلك الدرجة العالية من التعاطف والإحساس بالعالم، التشوش الداخلي والارتباك الاجتماعي، الرقة المنعزلة وقسوة الشعور بالوحدة، التوق إلى الألفة والبحث عن الخلود، وذلك الميل الدائم لمراقبة الطبيعة وحركتها التي لا تتوقف. هذا كله موجود في لوحات فان غوخ، بخطوطها الخشنة الثقيلة كأنها تخفي ارتعاشتها وضعفها بحيز الفرشاة الكبير على لوحة الرسم، وفي الأثناء ثمة جمال رقيق يكتنز على مهل وسط تلك الخطوط الحادة لفنان أبحر عميقاً داخل المناطق العنيفة والرابضة في روحه. ما الذي يمكن أن تجلبه عملية النسخ واللصق -الدقيقة جداً- التي يقوم بها كوبيلا وولشمان لهذا الفن الخالد؟ ربما تقريبه من جمهور لا يقدّر أعمال فان غوخ بما تستحقه، أو ربما بحثاً عن أوسكار في مطلع العام الجديد، أو ربما محبة وشغف حقيقيين هو ما يدفعهما. مهما كان السبب والدافع وراء إنجاز الفيلم، فإن القصور والاستسهال الكبيرين في كتابة سيناريو الفيلم، جعل النتيجة تبدو أقرب إلى حكاية نضوج مملة (A Coming of age) تتابع قصة رولان واكتشافه لذاته بدلاً من الموضوع الأساسي المفترض. وإذا كانت حياة فان غوخ نفسه ليست مهمة للفيلم، بقدر عمله، فإن تطلع فنان ما لبناء فيلم كامل استناداً على فكرة/فهم معين حول بعث وإحياء عمل فنان أسطوري، يستلزم صياغة سرديته بطريقة تسمح بتضمين إضافات لاحقة لحكايته، تربطه بتطورات الزمن اللاحق لماضي الأحداث الأصلية، وليس الركون كلية إلى التاريخ الرسمي السائد في نهاية ما يبدو كتحقيق بوليسي لكشف لغز محيّر.
 


"في محبة فنسنت"تجربة بصرية غنية ومثيرة ومحببة ولا يجب أن تفوَّت. اللوحات رائعة، وفي حالة فان غوخ، فهي مذهلة، لكنها تنضح بحياة تلك المعلقات على جدار معرض أكثر مما تعمل كخلفية للفيلم. ولهذا، وحتى لا يصبح تجنيًا في غير موضعه، يمكن فصل التقدير اللازم تقديمه لتلك اللوحات المرسومة يدوياً والمُعاد معالجتها بالكمبيوتر عما سبق ذكره من قصور في القصة والبناء السردي للفيلم. لكن، في الأخير، يبقى المزيج تقليدياً للغاية وهوليوودياً بامتياز. هندسة قصة الفيلم على طريقة الحجرة المليئة بالمرايا (مثلما في فيلم "المواطن كين" لأورسون ويلز، حيث نعلم جميعاً النتيجة النهائية بموت البطل منذ البداية)، يحدّ كثيراً من فترات ظهور الشخصيتين الأكثر إثارة للاهتمام، فنسنت وأخيه ثيو، ما يجعل الفيلم مسكوناً بطموح تحقق في غير محله. لكن، مرة أخرى، موسم الجوائز يبدأ الآن، ولن يغيب "في محبة فيسنيت" عن منصات التتويج في الشهور القليلة القادمة، لأن كثيرين يحبون هذا النوع من الأفلام.

(*) يُعرض حالياً في سينما متروبوليس (الأشرفية - بيروت)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها