الخميس 2017/12/14

آخر تحديث: 13:18 (بيروت)

لغتنا.. عبوديتنا

الخميس 2017/12/14
لغتنا.. عبوديتنا
(اللوحة للفنانة دعاء عرابي)
increase حجم الخط decrease
يروي أحد الزملاء الصحافيين طُرفة صرنا نتداولها كنكتة معبّرة. إذ لطالما أخبرنا الزميل عن الحيرة التي يقع فيها معارفه من الصحافيين الأجانب لدى قراءة الترجمة الإنكليزية للمقالات الافتتاحية في واحدة من أكبر الصحف العربية، والمذيلة بتوقيع رئيس تحرير متمتع بجمهور عريض من المعجبين بإنشائه. وذات مرة، بلغت الحيرة أقصاها، في مقالة رثاء لأحد الأمراء العرب، إذ أطلق الكاتب المخضرم عنان عواطفه الجياشة، واصفاً الأمير المتوفى بأنه "مقيم في ابتسامته". ويتساءل الزميل الشاب: كيف نترجمها هذه للقراء الأجانب؟...
Resides in his Smile؟

تحضر الطرفة في البال مع حلول اليوم العالمي للغة العربية، في 18 كانون الأول/ديسمبر، والذي كرسته منظمة اليونيسكو منذ العام 2010 "للاحتفاء بالتعددية اللغوية والتنوع الثقافي في العالم، وللترويج للمساواة في استخدام اللغات الست الرسمية المعمول بها في المنظمة الأممية". وبعيداً من الكليشيهات الرسمية عن حب سكان الأرض لبعضهم البعض، واحتفالياتهم الثقافية المتبادلة كهدايا واجبة في مناسبات اجتماعية لا مفرّ منها، فإن نموذج "الابتسامة" أعلاه، مع تحديات ترجمته إلى إطار مغاير للفهم بلُغة أخرى، يطرح إشكالية غير بسيطة: اللغة كأداة للتعبير عن نمط من التفكير والسلوك والتفاعل مع الحياة، وبالتالي كمرآة للبشر بتراكيبهم النفسية والاجتماعية والسياسية، سواء في الصحافة أو الأدب أو الأغنية أو غيرها.

وإذ تزخر أدبيات الألسنية الغربية بالتنظير لعلاقة اللغة بالإيديولوجيا، وبماضي المجتمعات وحاضرها ومستقبلها، فإن الدراسات المماثلة بالعربية لا تتعدى محاولات فردية قليلة، بالمقارنة مع هيمنة خطاب الأصالة، والذي قد يبلغ مبلغ السلفية اللغوية، لا سيما في الاحتكام إلى القرآن كمرجع فصل في الخلافات والالتباسات. ولعل المظهر الأكثر تعبيراً عن هذه المعضلة، يتمثل في نوعية النشاطات التي يبتكرها المهتمون العرب، للاحتفال باليوم العالمي للغتهم، بل وفي أمكنتها أيضاً. فالنشاطات غالباً ما تتمحور حول الشِّعر والتراث، في السفارات العربية في الخارج أو في المدارس. وإن تهوّر المنظمون، ذهبوا إلى نقاش التحديات الرقمية الحديثة وتأثيرها في اللغة، وذلك كمسعى للحفاظ عليها، أو بالأحرى تجميدها، بدلاً من استكشاف آفاقها وإمكاناتها.

ومنعاً للمغالطة، فإن المنحى الاحتفالي الدارج هذا، ليس سيئاً في حد ذاته. بل لعل استعادة جذور اللغة، وأعلامها وأرشيفها من الكتب والكتّاب، ممتعة ومفيدة ومدعاة فخر واعتزاز. بريطانيا، مثلاً، تحافظ برموش العيون على "ذا غلوب"، أي مسرح شكسبير، حيث ما زالت المسرحيات الأثيرة تُقدّم بلغتها القديمة المندثرة، وهي تشكل واحدة من أبرز الجاذبات السياحية في لندن. كما دأب الفرنسيون، منذ سنوات، على حكّ رؤوسهم لإيجاد المخارج المناسبة لأزمات الفرانكوفونية، مع ما أفرزته العملية هذه من جدل صحي حول مفاهيم التعصب والامبريالية والعولمة والشوفينية والتعددية والاندماج، وغيرها. في حين أن المسألة العربية قد لا تختلف، في اللغة، عما هي عليه في نواحي ممارسة السياسية والثقافة والاجتماع، لجهة التعلق بالماضي إلى حدّ أسطَرته وجعله منطلقاً أبدياً لليوم والغد. المسألة اللغوية العربية عالقة في التعاطي مع اللغة كطوطم مقدس، كأطلال وسط مدننا ودولنا، لا يُحبَّذ المسّ بها، وبالتالي يُترك لموقعها الأثري الحصين أن يُملي علينا خطط شق الطرق وتمديد شبكات الكهرباء والاتصالات. وهنا الفرق بين التعاطي مع تاريخية اللغة بوصفها المَزار الكلّي، المصون بخيالات الأولياء و"الإعجاز"، وبين حماية قديمها في متحف فخم، تنظّم إليه الزيارات، يحتضن الندوات والاحتفاليات ويرعى الدراسات والبحوث، فيما تستمر الحياة – حياة اللغة – خارج جدرانه.

والحال، إن أسئلة لغوية كثيرة مازالت تُعامَل معاملة المحرمات بين الناطقين بالضاد، شأنها شأن محاولات إعلامية وأدبية شبابية باتت تتجرأ على إقحام اللغات العامية، مثلاً، في نشرات الأخبار أو الروايات أو النصوص والمدوّنات. صحيح أن بعض هذه المحاولات قد يبدو ثقيل الظل. وأحياناً، يكون مفتعلاً إذ لا يتمدد في سياقات مقنعة أو ذات معنى عميق، مكتفياً بمبررات "البساطة" و"الجماهيرية" و"الشعبية". إلا أن المحاولات هذه، وبدلاً من اكتفاء بعض المتحمسين بالتصفيق لشجاعتها الصرفة، يجب أن تشرّع الأبواب على نقاشات من نوع: كيف ومتى يُقدّم الحوار بالعامية بين شخصيات الرواية؟ وكيف نتلافى في ذلك، غربة القارئ العربي المشرقي عن الأدب العربي المغربي؟ هل نستخدم مفردات أجنبية في النصوص العربية إذا بدت ترجمتها الحرفية بالعربية ثقيلة ومستغلقة؟ ولماذا يقال إن اللغة العربية ما عادت تنتج ما يوائم متطلبات العصر؟ ولماذا لا يزال المحتوى الإلكتروني العربي، عالمياً، رازحاً عند نسبة 3% في أحسن تقدير؟

وإذا ذهبنا بالتساؤلات أبعد، مغامرين باستفزاز كهنة اللغة، قد نقول: ما المانع من إعادة النظر في بعض القواعد؟ أيجوز، مثلاً، في القرن الحادي والعشرين، أن تبقى الضمائر وأسماء الإشارة (هذه، تلك، هي) موحَّدة الاستخدام لجَمع المؤنث البشري (الفتيات، النساء، المهندسات) ولكل ما هو "غير عاقل" (الطاولات، السيارات، الحيوانات)؟ بل وألا تكون صيغة الجمع لـ"غير العاقل" إلا مؤنثة... سالمة؟ ويُعتبر خطأً استخدامُ صيغة التأنيث لكلمة "عضو" (في مجلس إدارة أو نادٍ). وإن اجتمعت عشر نساء، ومعهنّ طفل ذكَر واحد، لا بد أن يُحكى بصيغة "هُم". أما "نائب"، فلا تؤنث، خوفاً من معنى "المصيبة" لكلمة "نائبة"، ولا مَن يجادل في أن المعاني يكرّسها الاستخدامُ وتتحكم فيها الثقافة.. ولا مَن يقاوم حماية السائد ودلالاته العتيقة، بدلاً من نفضه لأقلمته، فنطوّعه ولا يطوّعنا. فهي لغتنا، نحن خلقناها، والآن نعبدها!

وإلى متى يظل الخيار الوحيد لكتابة بلا إقصاء، هو وضع التاء المربوطة بين هلالين، في أسلوب يستعصي على العَين والذهن معاً؟ وهل ستظل "نون النسوة" نشازاً مُلزماً في نص لا ذكور فيه؟ قد يقول قائل إن المسألة الجندرية العربية تعاني أزمات أشدّ وأكثر فتكاً، في القوانين والتشريعات والثقافة الموروثة، وأن الحراك اللغوي الآن ترف. إلا أن مسارات النقد والتغيير ليس من صفاتها التسابق والتنافس على الأولوية، بقدر ما تُعرف عن الناجح منها خصائصُ التزامن والتوازي والتشابك.

ويمكن للأسئلة أن تستمر وتتكاثر: هل من حاجة إلى إعادة النظر في صيغة المثنى؟ هل أن إرباك صرفها ونحوها يوازن حاجة فعلية إليها؟ وهل سنظل نتوقف، ولو لثوان، كلما كتبنا رقماً أو عدداً، لنستعيد أحكام ما يليه؟... المهم، كل عام ولغتنا العربية بخير، وفي لوح محفوظ، لا تحريفَ يطاوله ولا نَحلَ، إلى أن تحلّ فينا نعمة النقد، أو نلوي أطراف ابتساماتنا كي لا تصبح إقامتنا فيها مؤبدة.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها