الأربعاء 2017/10/04

آخر تحديث: 11:58 (بيروت)

عن مصر الولّادة

الأربعاء 2017/10/04
عن مصر الولّادة
أنت مَدين لوالديك لأنهم أتوا بك إلى الحياة.. وعليك ردّ الدَّين
increase حجم الخط decrease
في كتابها "سيدة من مصر"، تنسب جيهان السادات لنفسها، الفضل، في إطلاق أول حملات التوعية على مخاطر الزيادة السكانية. وتروي أولى حاملات لقب "سيدة مصر الأولى"، كيف اهتمت بالعمل النسوي ودعم المرأة في القرى والمناطق الفقيرة، لكنها رصدت أيضاً كيف تتجنى قوانين الأحوال الشخصية على المرأة، وتمنح الرجل حقوقاً مبالغاً فيها ليست حتى من الشرع.

ولهذا، عملت، من خلال مؤسسات المجتمع المدني التي أسستها، ومن موقعها كزوجة لرئيس الجمهورية، على الدفع بأجندة تحسين وضع المرأة المصرية في قوانين الأحوال الشخصية، وترتقي بمستوى خدمات الصحة الإنجابية المقدمة لها.

والتعداد السكاني المصري الجديد، الذي أُعلنت بياناته مؤخراً، ليس الأول من نوعه الصادم. إذ بدأت التقارير تحذر من الكثَافة السكانية المصرية منذ أواسط السبعينات، وعُرض الأمر إعلامياً كمشكلة اجتماعية طريفة في أفلام كثيرة مثل "الحفيد" و"أفواه وأرانب"، إلى جانب المسلسلات والسهرات التلفزيونية. تروي جيهان، أن السادات كان متردداً دائماً في إظهار أي شكل من أشكال الدعم لأجندتها الاجتماعية، وعلى رأسها تغيير قوانين الأحوال الشخصية أو خطط تنظيم النسل التي كانت تُعرض عليه. وتبرر جيهان ذلك بأن السادات لم يكن يريد أن يواجه رجال الدين أو يتدخل في الحياة الأسرية للناس، لكن الإجابة الأرجح التي لم تذكرها جيهان أنه لم يكن في إمكان رجل تزوج مرتين ولديه أكثر من خمسة أبناء أن يحاضر على المصريين في تحديد النسل.

وفي عصر حسني مبارك، انطلق برنامج الحكومة لتنظيم الأسرة، بقوة وفاعلية. قدم مبارك في شخصه نموذجاً للأسرة الحديثة والتي تتكون من ولدين فقط، وكان يتفاخر بالأمر صراحة ويدعو المصريين إلى الاقتداء به. تحول الأمر إلى استراتيجية واضحة لدى الدولة بعد مؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة ونظمته الأمم المتحدة العام 1994، ونتجت عن المؤتمر وثيقة ملزِمة للدول المشاركة، من أهم بنودها إلزام الحكومات إتاحة ودعم وسائل تحديد النسل لسكانها. وعارض الشيوخ والمؤسسات الدينية مصطلح تحديد النسل، فاطلقت الحكومة برنامجها تحت مصطلح تنظيم الأسرة. 

برامج تلفزيونية، مسلسلات، معارض لرسوم الكاريكاتير، إعلانات توعية على مدار الساعة.. تحث المرأة الريفية على زيارة الوحدة الصحية لمعرفة وسيلة تنظيم الحمل المناسبة لها. دعم مالي لكل وسائل تنظيم النسل، من الواقي الذكري وصولاً إلى "اللولب". وفي كل خطاب يتوجه به مبارك إلى الشعب، كان يصر على التطرق إلى هذا الأمر. أحياناً بلطف، منبهاً إلى معدلات الزيادة السكانية التي تلتهم جهود التنمية، وأحياناً بعصبية كأن يقول: "ما أنتوا بتزيدوا نجيب منين!".

كانت التسعينات، عقد تنظيم الأسرة بامتياز، وسيطرت هذه الأزمة على جزء كبير من الإنفاق الصحي الحكومي، إلى جانب برنامج مكافحة البلهاريسيا. ومع بداية الألفية الجديدة، تحول الأمر من مجرد توعية وتشجيع على تنظيم الأسرة، إلى اقتراح حزمات اقتصادية، بدأت تظهر في البرلمان، لتشجيع المواطنين على تنظيم الأسرة، مثل رفع الدعم عن الأسرة إذا انجبت أكثر من ثلاثة أطفال.

فجأة، اختفى كل هذا بعد 25 يناير، كأنما انتهت مشكلة الزيادة السكانية، أو تبخرت الزيادة في الهواء. على استحياء، تطرق الرئيس السابق، محمد مرسي، ومن بعده عبدالفتاح السيسي، في خطاباتهما، إلى مسألة الزيادة السكانية، أو اقترحا برامج للحد منها. اختفت إعلانات التوعية بمسألة تنظيم الأسرة والزيادة السكانية. تقلص وجود مراكز الصحة الأجنبية المنتشرة في ربوع الجمهورية، وتحولت إلى مبان مهجورة أو تم دمجها في الوحدات الصحية المحلية. توقفت الدولة عن دعم وسائل تنظيم الأسرة، فارتفعت أسعارها، بل أصبح من الصعب العثور على بعضها.

في مؤتمر إعلان تعداد مصر الأخير، حيث تبيّن أن المصريين تجاوزوا الـ104 ملايين نسمة، منهم حوالى 10 ملايين يعيشون في الخارج، لم يتطرق الرئيس للأمر بصفته أزمة، بل كان فخوراً بقدرة جهاز الدولة على إجراء التعداد بأحدث وسائل التكنولوجيا، وتطرق فقط إلى مشكلة زواج القاصرات. إذن، ما الذي حدث؟ هل انتهت مشكلة الزيادة السكانية؟ أم أنها لم تعد مشكلة؟

ركّز معظم التعليقات على التعداد الأخير، على النسبة المرتفعة للأمّية، والتسرب من التعليم. نتحدث عن أكثر من 25 مليون مصري لا يعرفون القراءة والكتابة. ورغم تأمين تغطية شبكة الكهرباء لـ99% من المواطنين، فإن شبكات الصرف الصحي والحمّامات لا تتوافر إلا لـ56% منهم. لكن الظاهرة المدهشة، تتجلى في الاهتمام الجماهيري بالتكنولوجيا، والاتصال بها، مع أكثر من 60 مليون مستخدم لشبكات المحمول، أي أن العدد نفسه تقريباً من السكان الذين لا يتمتعون بـ"رفاهية" الصرف الصحي، متّصل ببعضه البعض، وبالانترنت، من خلال أجهزة في الأيدي، مع ملاحظة أن 61% من المصريين تقلّ أعمارهم عن 30 سنة، و34% أعمارهم أقل من 15 سنة.

نحن إذن أمام أمّة شابّة يحكمها العجائز، ومُتعطشة للتكنولوجيا. هم العجائز والخبراء أنفسهم الذين يظهرون في التلفزيون للحديث عن خطورة الانفجار السكاني. يوجهون دائماً أصابع الاتهام للمحافظات الأكثر فقراً، لأنهم الأكثر إنجاباً. لكن، من الطبيعي أن ينجب الفقراء أكثر فأكثر، لأن الإنجاب "عزوة"، وكل ولد أو بنت هو فرصة لزيادة الدَّخل المنعدم من خلال استغلال طاقة الطفل كيَد عاملة. لكن لماذا يُكثر أبناء المدن وخريجو الجامعات، إنجابهم؟
يشير التعداد إلى أن 93% من المصريين يشملهم التأمين الصحي الحكومي، لكن وضع المؤسسات الصحية في مصر، خصوصاً الحكومية، ليس في أفضل حالاته، ولا يشمل التأمين الصحي برامج رعاية المسنين. في مصر ما يعرف بدُور رعاية المسنين، وهي أشبه بفنادق إيواء، بلا أي رعاية صحية، وليست مجهزة للتعامل مع الحالات الحرجة كمرضي الألزهايمر أو غيرها من أمراض الشيخوخة. حينها، تظهر قيمة الأولاد، فرعاية الكبار والوفاء ومنظومة الأسرة المصرية السائدة في المجتمع المصري، تقدم العلاقة بين الآباء والأبناء، كعلاقة بين دائن ومَدين: أنت مَدين لوالديك لأنهم أتوا بك إلى الحياة، وعليك ردّ الدَّين بقية حياتك، وأي تخاذل عن القيام بهذا الواجب يُلحق بك العار. وتخصص البرامج الاجتماعية، فقرة ثابتة لعرض جحود الأبناء، كنموذج للتصرفات المحرّمة والمنبوذة اجتماعياً. لذا، فلدى الطبقة الوسطى، يبدو الإكثار من الأولاد استثماراً في المستقبل.

لكن، إذا كان هذا مبرر المواطن، فلماذا اختفى اهتمام الدولة الفعلي بتلك الزيادة السكانية؟ هل لأن الرئيس نفسه لديه أربعة أبناء؟ أم لتغيّر في الاستراتيجة واعتبار المصريين سلعة؟ أم لأن الطبقة المهيمنة لا تهتم، طالما استمرّت في بناء مدنها المحصنة ذات الأسوار العالية؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها