الثلاثاء 2017/10/24

آخر تحديث: 11:13 (بيروت)

باريس لنا... ثورة الهامشيين في "الثعالب الشاحبة"

الثلاثاء 2017/10/24
باريس لنا... ثورة الهامشيين في "الثعالب الشاحبة"
الرواية ليست دفاعاً عن حقوق المشردين واللاشرعيين فحسب
increase حجم الخط decrease
ما بين الشعار السريالي المفعم بالحياة "كونوا واقعيين ... أطلبوا المستحيل" الذي خطته أيادي الطلاب على جدران السوربون في أيار 1968 وبين عبارة "لا وجود لشيء اسمه المجتمع" التي خطتها أيادي اللاشرعيين في رواية "الثعالب الشاحبة" يوجد فارق أساسي عميق وكبير: فقدان الأمل. ففي العبارتين اللتين اتخذتا من الجدران وسيلة تعبير، كان الأمل هو الكلمة الفارقة، التي أعطت للعبارة الأولى شِعريتها وانفت من الثانية كل روح إنسانية وكل شعرية ممكنة.

الفرق بين العبارتين هو، بمعنىً آخر، جدلية النقيضين (الشعر والسياسة) بحيث توجب على الشعر أن يموت، لتحل محله السياسة بكل فظاظتها التي لا تعترف بالإنسان. يشير يانيك هاينيل الى هاتين النقيضتين في روايته الصادرة عن دارغاليمار وتتزاحمان في أخذ مكان الصدارة في الرواية، فتحتل الشعرية المكان الأساسي فيها (على حد قول الكاتب في مقابلة تعريفية لروايته) رغم كل تلك القراءة السياسية التي يمكن أن نجدها  في الرواية.

جان ديشيل، الشخصية الرئيسية في الرواية هو عاطل عن العمل قرر الإقامة في السيارة بعد أن تم طرده من منزله بسبب عدم قدرته على دفع أجره. تقوده بعض الإشارات والعبارات والرسومات على الجدران إلى التعرف على مجموعة من المشردين الذين ينظمون أنفسهم للقيام بمظاهرة ضد المجتمع وقيمه والحكومة المستغلة ورأسماليتها. مظاهرة تتخذ لنفسها طابعاً إحتفالياً، مستلهمةً رمزيتها من كومونة باريس 1871 ومن أساطير شعوب الدوغون وأسطورة الإله المتمرد "الثعلب الشاحب" في مالي.

هذه الرواية التي نقلها للعربية كل من ماري إلياس ومعن السهوي، وصدرت عن دار ممدوح عدوان، تشير إلى قضية قذف الإنسان بين الأماكن، أو بكلمة أدق طرده من الأماكن واستعباده عن طريقها. فجان ديشيل لا يمتلك رفاهية أبطال روايات القرن العشرين المتمتعين بغرف خاصة أو بغرف فنادق، ذلك أنه ينتمي لعصر إنهيار الملكية الفردية: ملكية الأشياء والأماكن والخصوصية. هذا الإنهيار الثلاثي يعتبر الثيمة التي لا يمكن تغافلها في كل أدب يعبر أو سيعبر عن العصر الحالي. يضاف إلى ذلك تشعب مفهوم المكان ليتجاوز ملكية الغرف والبيوت إلى ملكية الأوطان. فبعض المطرودين الذين يرد ذكرهم في الرواية هم مطرودون من أوطانهم، ويشير إليهم يانيك بقصصهم الأكثر واقعية: قصص المهاجرين غير الشرعيين.

الرواية ليست دفاعاً عن حقوق المشردين واللاشرعيين فحسب، بل هي كذلك بالدرجة الأولى سؤال الهوية والإنتماء. الهوية التي تصنفنا، تؤطرنا وتختصرنا لرقم في دوائر الحكومات الرأسمالية، منكرة علينا في نفس الوقت أي من حقوقنا كونها تعترف بأرقامها لا بإنسانيتنا: "من الملح اليوم أن يتخلص الجميع من هوياتهم، فإذا لم نتخلص من مفهوم الهوية ستتمادى الحكومة وستفرض علينا إرتداء أساور إلكترونية تزين معاصمنا لمراقبة كل تحركاتنا".

الجدير بالذكر أن الهوية لا تحمل هنا، معناها الواسع القائم على التشارك، بل تجزأ وتقسم الأفراد كونها تتلخص بالأوراق الثبوتية التي تمنحها الحكومات أو تسلبها تبعاً لمزاجيتها السياسية. هذه الهوية التي تُمنح أو تُسلب ليست هوية إستقرار أو إنتماء، بل هوية شرط وقيد، حيث إنها تؤدي في كلتا الحالتين إلى التشرد والعزلة والوحدة والإختناق.

منذ بدايتها تنحو الرواية منحى المباشرة، لا تبحث عن أي غموض أو عمق أو تورية، ربما لأن الرد الملغوم أو الرمزي على مباشرة العصر سيكون ضرباً من الرومانسية المتأخرة. على العكس فهي تضع إصبعها في محجر العالم لتفقئ عيناً لم تعد ترى، هي عين العالم المستغرِق في تجاهله. الخطر الذي يتحدث عنه يانيك آت من تقسيم الكائنات إلى ثنائيات قائمة على الإستحقاقات: الشرعيين/اللاشرعيين، المتمتعين بالهوية/مسلوبي الهوية، المركزيين /الهامشيين، الأحرار/العبيد...

في القسم الأول من الرواية لا يعتمد هانيك على إظهار دواعي التردي والإنحطاط في قيم المجتمع إلا بقدر إهتمامه بإيجاد المخرج المتمثل بالثورة. في هذا الجزء تدور الأحداث المكانية في السيارة أو في بعض الحواري الهامشية التي لا تنفصم دلالة وصفها عن دلالة إستعباد الهامشيين وتشييئهم وتحويلهم لمكب نفايات مجتمع المركزيين وأصحاب السلطة.

تتوسع المباشرة في طرح القضايا الأساسية في الرواية ليتم تغيير سيرها بشكل جذري في القسم الثاني منها. في هذا القسم تتحول الرواية إلى خطاب ثوري، حيث لا يقف على مسرح أحداثها سوى تلك الكتلة الثورية التي تجوب شوارع باريس شارعاً بشارع معلنة ثورتها. كأن تلك الثورة  السيّارة ألغت المركز وألغت الفردانية شكلاً ومضموناً. ومن ناحية أخرى فقد حققت إستيلائها على المكان بتغطيتها لقلب باريس من ساحة الكونكورد وحديقة التويلري، ساحة الفاندوم، شارع الريفولي وباليه رويال وشانزليزيه...

من الناحية التقنية، لا يأتي الكاتب بأي جديد. تبدأ الأحداث بصيغة المتكلم المفرد ليسترجع البطل بعضاً من ماضيه ويؤكد أن حالته لا تشبه الحزن أو اليأس، بل هي أقرب ما يكون للتوهان وتفريغ الذات من الحياة. ثم ما إن ينتقل البطل إلى منطقة التمرد في الجزء الثاني من الرواية وينضم لثورة الأقنعة فإن صيغة "الأنا" تتحول لصيغة "نحن" بشكل نهائي، وهذه تلقائية لا تحمل الكثير من الغموض وتفيد في تدعيم فكرة الرواية لتتحول الشكوى الفردية إلى قضية مواجهة حقيقية واضحة المعالم.

يستشعر القارئ أن الكاتب، في رده التقليدي وإتخاذه الطريقة الأكثر شيوعاً في التعبير عن التمرد، يشير إلى أن لغة الحوار البشري لم تطور نفسها البتة. أو فلنقل بالأحرى أن لغات الحوار تعجز دائماً عن التعبير حين يتعلق الأمر بصراع طرفين متمايزين جداً في القوة والفاعلية. فلا لغة صادرة عن الضعفاء، المشردين، اللاشرعيين يمكنها أن تحاور أطراف القوة والإقتصاد والرأسمال.

هذا الاستشعار يرافقه تساؤل آخر من قبل القارئ خاصة قراء زمن الثورات: كيف يمكن الإيمان بعد بثورة تبدأ بحماسة منقطعة النظير لتخيف أجهزة الشرطة وقوى الأمن بعد دقائق من إنطلاقتها؟ هل يمكن الوثوق بالخطاب الثوري، مهما بلغ صدقه؟ لا يغيب عن الذهن أولا القول أن المتظاهرين الذين يغنون أغاني الإله المتمرد ويتمايلون على إيقاعاتها الأفريقية ليس لهم صوت بشري قادم من قاعدة المجتمع. هذه الأصوات ليست إلا غرغرة في حلق المجتمع سرعان ما سيقذفها بعيداً كبصقة أو إقياء في أحسن الاحوال. وهذا ما يصور فعلاً حين أظهرت الرواية شخوص هذه الثورة على أنهم نفايات ملقاة هنا وهناك.

هذه الرؤية السلبية هي الرؤية السياسية للرواية بلا منازع، لكن هناك رؤية نفسية كامنة وراء اختيار يانيك للفئة الأكثر استبعاداً في المجتمع. هؤلاء المعدمون الذين لم يعودوا يملكون أي شيء يتماهون معه، هم الأقدر على الرؤية والأقدر بالتالي على تقبل أن يتم بصقهم ليعودوا الى الصراخ من جديد كل مرة. يضاف إلى ذلك اختيار الكاتب للشكل الأكثر عفوية لثورته: ثورة بلا شعارات، بلا قائد، بلا أوامر، هي أقرب للاحتفالية اللاواعية منها للمظاهرة الواعية، مما يعطيها تلك القوة التي ستتوجه لتغيير وعي الناس قبل تغيير منتهكي حقوقهم.

أما عن الخيال الشعري الذي يحاول مقارعة القراءة السياسية الممكنة للرواية فيتمثل بنقطتي ضوء يلقيهما الكاتب في وسط العتمة: النقطة الأولى تتمثل في الأمل في الباقي غير المدمر بعد من الإنسانية. هذه الفكرة تشكل اللحظة المفصلية بين القسمين المتمايزين للرواية والذروة الهادئة لها: "لم يستبعد العالم بشكل كامل. لم نهزم بعد. مازال هناك الفاص،, وفيه كل شيء ممكن".

أما نقطة الأمل الثانية فتتمثل بنقل الهامشيين إلى المركز ونقل أفريقيا الى قلب أوروبا. ففي تلك الإحتفالية يركز الكاتب على تحقيق تغيير فكري يتمثل بجعل الهامشيين الذين قضوا حياتهم في الحواري البائسة وفي حاويات النفايات يحتلون مركز باريس ليلقوا بالمركزيين على أطرافها. ومن جهة ثانية ركز الكاتب على نقل أفريقيا بشخوصها وأساطيرها إلى مركز أوروبا، لا لأن أفريقيا هي القارة الأكثر انتهاكاً بل لأن "أفريقيا تقدم دائماً شيئاً جديداً" (على حسب قول بيلينيوس الأكبر). وهذه الفكرة أعتُبِرت كرد على الخطاب العنصري لساركوزي ضد الأفارقة والمهاجرين.

تصارع الرواية بين واقعيتها الفجة ورمزيتها الشعرية لتقول لنا أن الأماكن هي أحد المعابر الأساسية لحريتنا، فإمتلاكنا للأماكن بعيداً عن شروط وقيود الإقتصاد والسياسة هو بحد ذاته الحرية التي ستنقذنا وتنقذ آمالنا: "تنبهنا أن باريس هي لنا، وان هذه المدينة تحترق بشعلة تحملها منذ  الأزل، شعلة ثابرتم أنتم على إخفائها. شعلة الخارجين عن تبجيلكم".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها