الثلاثاء 2017/01/24

آخر تحديث: 12:28 (بيروت)

"هيا نشترِ شاعراً": أفونسو كروش في السوق

الثلاثاء 2017/01/24
"هيا نشترِ شاعراً": أفونسو كروش في السوق
الابنة التي تعاني الضجر تطلب من والدها أن يشتري لها شاعراَ تُسكنه تحت الدرج
increase حجم الخط decrease
يدين البرتغاليّ أفونسو كروش في روايته "هيّا نشترِ شاعراً" الترقيم الذي اجتاح الحياة المعاصرة، ويبدو في طريقه إلى التصاعد شيئاً فشيئاً بحيث يُفقد البشر إنسانيّتهم ويحوّلهم إلى أشياء في واقع السوق والاستهلاك، كلّ شيء قابل للتسليع، كلّ التفاصيل والعلاقات والبشر سلع في عالم السوق الذي يفضي في النهاية إلى خراب روحيّ شامل، لا قيمة حقيقية للفنون والآداب في مجال الأرقام والحسابات والنسب، تغدو أشياء قديمة في نظر المستهلكين والتجّار، ويبدو أصحابها والمشتغلون فيها مدعاة للشفقة، ومعروضين في محالّ للبيع والشراء كأيّ سلع أخرى.
يثير كروش أسئلة عن دور الشعر والفنّ والأدب في عالم الأرقام ولعبة التسليع والحسابات، وما إن كان سيحظى بأيّ وجود أو حضور أو تأثير في هذا العالم الذي يمضي إلى تشييء كلّ شيء، وسلب البشر روحانيّتهم وخيالهم وجماليات اللغة والفكر، ويحوّلهم إلى تفاصيل وأشياء وسلع في مصنع كبير يقوم بتخريج روبوتات مهووسة بالأرقام والأموال والأرباح، لا تملك من قرارها شيئاً، تنساق وراء ما تمّت برمجتها عليه من شغف بالربح والسوق بعيداً عن أيّ جانب إنسانيّ وفنّيّ وأدبيّ.

يتساءل كروش في روايته القصيرة المكثفة عن تسيد قيم جديدة الحياة المعاصرة، وسطوة النفعية واللهاث وراء الربح السريع، وكيف يكون النظر إلى الإنسان من منظار النفعية قاتلاً لقيمته الإنسانيّة وناهباً للشعور والإحساس وفاقداً لأيّ روح.

بطلة الرواية تتحدّث عن أسرتها وأصدقائها، جميع من حولها لا يفهم إلّا بلغة الأرقام، والدها التاجر يتعامل بمنطق الربح والخسارة والتجارة مع أفراد أسرته، يحدد أدقّ التفاصيل المادية للتحرّك، ويحدد مصاريف الأسرة من مأكل ومشرب بدقة لا تقبل الانزياح أو التلاعب أو التبدّل، وإذا ما افترضت ظروف معينة تغيير تفصيل ما فإنّ ذلك يكون على حساب أفراد الأسرة وراحتهم.

في الرواية، الابنة تصل إلى درجة من الخواء، تستشرفه من خلال مراقبتها لسلوكيات من حولها، وحياة أمها الرتيبة الخالية من أي معنى أو روح، تطلب من والدها أن يشتري لها شاعراً، وحين يناقشها في سبب اختيارها لشاعر، يثني على اختيارها باعتبار أن الشاعر غير متطلب كالرسام أو النحات ولا يغرق مكانه بالألوان أو الغبار، وعلى اعتبار أن هناك مكاناً شاغراً تحت الدرج يمكن أن يكون ملاذاً له.

يفترض كروش وجود متجر لعرض الشعراء بمختلف القياسات والأحجام للبيع والشراء، منهم مَن ينتمي بكتابته إلى عصور بعينها، هناك الكلاسيكي وهناك المحدث، هناك الكئيب وهناك المبهج، هناك المشاكس وهناك المسالم، ولكلّ منهم سعره المفترض في عالم السوق الذي يتعامل مع الشعر كشيء للزينة والإكسسوار لا كفنّ إنسانيّ راقٍ، ذلك أنّ الحديث عن الفنّ غير الجاني لأيّ ربح، خسارة في نظر المهووسين بالأرقام والبورصة والحسابات.

الشاعر المجلوب إلى البيت، المشترى بسعر محدد، يلتزم بدور العبودية، يعيش عزلته وشعره في مكانه المهمل المختار له، يضخ بين الفينة والأأخرى جملاً مجازية تحرك لدى الفتاة التوق للاكتشاف والرغبة في الانعتاق من حصار الأرقام لها، تفتح أمامها فضاءات متخيلة وتضعها على درب إنسانيتها المستلبة من قبل مرقّمي عالمها والعالم الحديث بشكل عام.

يلفت كروش إلى التغير الذي يتسرب إلى حياة الأسرة بعض شراء الشاعر، إذ هناك مفردات جديدة تستعمل في البيت، بمعزل عن النسب المئوية والتدقيق على اللحظات والثواني وتقسيم كلّ شيء وبرمجته بحيث يكون البشر آلات وأدوات في ماكينة تعيد تصنيعهم وتسليعهم باستمرار في دورة اقتصادية فتاكة لا تنتهي إلى بتدميرهم. يدخل شيء من المجاز والاستعارة إلى لغة الراوية وأمّها، يكون الخيال واهباً طمأنينة بددتها الأرقام.

تسعى صديقات الراوية إلى شراء شعراء أو فنانين من منطلق الحسد والغيرة، لا حباً بالشِّعر والفن، بل انطلاقاً من منطق التملّك والاستحواذ، على اعتبار أنّ حركة البيع والشراء تكفل للجميع اختيار السلع التي يودّون اقتناءها، وطالما هناك مال فلن يستعصي على أصحابه شراء ما يرغبون به.

تقرّ الراوية أنّ كلمات الشاعر أحدثت هزّة في عالم الأسرة الرقميّ، وبدّدت شيئاً من التسليع الذي يغلّفها ويغرقها، ودفعتها للتفكير بالخروج من قوقعة الترقيم والنسب إلى ميدان الخيال والمجاز عسى أن تعثر فيه على ما يكفل لها راحة وأماناً لا يمكن للأموال والأرقام تحقيقهما. 
يستشعر الأب خطر كلمات الشاعر وما يحدثه من تغيير، ويستغل فترة ركود تجارته وتراجعها، وتحت زعم التخفف من أعباء المصاريف يتخلص من الشاعر، ولكنه يقر في نفسه أن هناك ما استجدّ في حياة أسرته، أي أن هناك ثورة تلوح في أفق الأسرة، الأمّ تبدأ بالبحث عن ذاتها المسلوبة وشخصيتها الممحوّة، تبحث عن اعتبار مفقود، تلوذ بكلمات الشاعر وتجد فيها صدى لأحلامها بمعنى ما.

يضع كروش الشعر في مواجهة الكمّ والرقم والنسب المئوية، يشهره كسلاح إنسانيّ مسالم يمكنه إنقاذ البشر من جحيمهم الذي يبالغون في تقديسه، الجحيم المتمثّل بنشوة تتراءى لهم أثناء شحنهم أدمغتهم بأرقام هي صدى للأوهام، أرقام تزيد الفراغ الروحيّ لديهم كلّما تضاعفت في أرصدتهم، وكأنّ التناسب هنا يمضي بالمترقّمين طوعاً أو اغتراباً أو جهلاً درب من دروب المتاهة المستقبليّة التي تنذر بهلاك مجتمعات الاستهلاك والتسليع.

لا يختار الروائيّ أسماء لشخصيات روايته بل يكتفي بترقيمها، لكل شخصية رقمها، والرقم هنا هو الهوية الدالة على صاحبها، وهو اسمها الجديد الذي حل محل القديم في سوق العصر الحديث، والرقم يلعب دوره بتفانٍ في مضمار الاستلاب الذي يتعرّض له، يعيش مأساته غير واع بها، يتلبّس دوره الذي يجد نفسه مكبلاً به، يكون الرقم قيداً على صاحبه سالباً منه الروح والروحانية معاً.

يثبت كروش بالأرقام في خاتمة روايته أنّ الاستثمار في المجالات الأدبيّة والفنّيّة والثقافيّة يكفل الربح أكثر من الاستثمار في مجالات أخرى تبدو للوهلة الأولى مربحة، ويتعامل مع عالم السوق بمنطقه، يوثّق التفاصيل والنسب والأرقام المؤكّدة لطرحه، يتعامل مع السوق باللغة التي يفهمها ليقنع الفاعلين فيه والمتحكّمين به بالالتفات إلى الشعر والفنّ والأدب، وأنّ ذلك كلّه يصبّ في صالح الربح على مختلف الأصعدة.  

يثبت في ما يشبه الخاتمة مقولة غورينغ: "عندما أسمع كلمة ثقافة، أرى حافظة مسدس"، ويشير إلى أن هكذا ينظر العديد إلى الثقافة. وأن هذا ليس سيئاً، بل علامة مهمة لإبراز قدرتها على التهديد. فيمكن سحب الأسلحة، وأنه إن لم يكن للفن والثقافة أهمية ما كان هناك من أقبل على حرق مكتبة الإسكندرية أكثر من مرة عبر التاريخ، أو على تدمير تماثيل بوذا وآثار تدمر، وإنه إن لم تكن الثقافة مهمّة حقّاً فإنّ غورنيغ ما كان ليخرجها من حافظة مسدس.

يؤكد على أن الأشياء الأهم في الحياة ليست نفعية بالضرورة، وأن الناس يحتقرون من يقوم بحركة من أجل الربح، أو فائدة، وليس الحركة في حد ذاتها، بسبب صداقة أو حب. ويتساءل عن شعورنا لو أن صديقاً يقول لنا إنه يتحدث معنا فقط لأنهم دفعوا له من أجل ذلك، أو أن أماً تعترف لابنها أنه ربته وعلمته لا لشيء إلا ليعتني بها في شيخوختها؟ ويؤكد كذلك أننا نجد في الأشياء غير النافعة الإيثار وهو ما يعتبره الكائن البشري أكثر نبلاً.

يلفت إلى أن غياب النفعية في العمل الفني لا يحجب عنه البراغماتية، وأن المبدع قد لا يكون في نيته ربح نقود من وراء عمل فنّيّ، إذ أن الفن يكون له عادة غاية بذاته، لكنه قد يكون منتجاً تجارياً ناجحاً، ويمكن ألا تكون لدى المبدع رغبة في إثبات نسب هندسية للطبيعة، لكن هذا لا يعني أن رياضياً لا يمكنه اكتشافها هناك. يستعير تعريفات الشاعر بحسب صموئيل جونسون، وهي أنه شخص يبتكر، وكاتب خيال، وكاتب قصائد.

ويؤكد كذلك أن الخيال ليس هروباً من القبح ومن الرعب ومن المظالم الاجتماعية، وإنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاماً مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية. ويؤكد على أن الخيال والثقافة يبنيان كل ما نحن عليه. يختم بما يشبه وصية الروائي للاهتمام بالشعر والخيال بقوله: "عليّ أن أقطع أميالاً قبل أن أنام.. وعلينا ألّا نترك الشعراء في الحدائق".  

يمكن توصيف "هيّا نشترِ شاعراً" بأنّها صرخة روائيّة لردّ الاعتبار للشعر في عصر السوق وفجيعة الترقيم والحسابات، واحتجاج على أنّ الفنون والآداب ليست بضاعة للتجارة أو أشياء للزينة، وأنّ البشر يحتاجونها للماء والهواء في حياتهم، وهي التي تضفي على حياتهم معنى وقيمة ووجوداً وتشعرهم بإنسانيّتهم، بعيداً من الانجراف وراء نهم الربح وجشع مراكمة الثروات ومضاعفة الحسابات. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها