أثارت هذه النجاحات في سوق الكاسيت المصري، موجة من الامتعاض لدى النخبة الموسيقية، التي لن نبالغ إذا وصفناها بالنخبة البرجوازية، نظراً لسيطرتها على أشهر ملحنيها، وشعراء أغانيها، وأدوات الإنتاج الموسيقي في ذلك الوقت، إلى الحد الذي جعلها تستنكف الاعتراف، أو الترحيب بالمغامرين الشبان الجدد، الذين كسروا احتكارها لسوق الكاسيت المصري في نهاية الثمانينات، وإن لم يكسروا احتقارها لهم والذي تضاعف نتيجة لهذه النجاحات.
في مقابلة مع عمرو دياب نهاية الثمانينات، أجراها مفيد فوزي، الذي اشتهر بأسلوبه المفاجئ للضيف ومقاطعته له، نستشف بسهولة سخط النخبة الموسيقية على نجاح عمرو دياب، واكتساح أغنيته "ميال"، وأثرها المستمر في نفوس مستمعيها، على الرغم من نجاح "من غير ليه" ورقم توزيعها، الذي قفز، بفضل جهود الدولة لمساندة هذا اللون من الغناء، إلى مليون أسطوانة بعد شهور من إصدارها بصوت محمد عبد الوهاب الذي تغنى بها للمرة الأولى منذ توقفه عن الغناء قبلها بخمسة وعشرين عاماً.
بدأ مفيد فوزي حصاره لعمرو دياب في ذلك الحوار، بمقولة الموسيقار محمد الموجي الذي هاجم جيل المطربين الشبان، فوصفهم بـ"الجيل العاق". ضغط فوزي على الكلمات أثناء نطقها، متعمداً إشعار عمرو دياب بالإهانة.
في هذا الحوار بدا عمرو دياب متصدياً وجريئاً، معبّراً عن طموحاته، مُشهراً في وجه محاوره، سلاح الرغبة في مقاومة هذا الاستعلاء بشتى الطرق. والمتابع لهذا الحوار، يكتشف أسباب استعادتنا له في هذا المقال. فهو حوار كاشف عن مطرب كان منذ ذلك الحين يحفر لنفسه موطئاً في الساحة الفنية، أمام محاور يزدريه، ويزدري ما يفعله، ويكره ما يقدمه، وكانت النتيجة التي نعرفها الآن وما حققه عمرو دياب طيلة مشواره.
يقول فوزي لضيفه: محمد الموجي يرى أنكم جيل بلا أساتذة، من جواكم تطلعوا كتاب أغاني، وملحنين، أولاد عاقين؟
مناورات مفيد فوزي استمرت مع عمرو دياب خلال الحوار، في محاولات دؤوبة لإجباره على الاعتراف بكونه "قزماً" في ساحة العمالقة. ومن تلك المحاولات، سؤاله: أين أنتم من عبد الحليم حافظ؟ فرسم الضيف ابتسامة مطمئنة، فيها شيء من السخرية كأنه يغمغم "أدركت لعبتك"، ثم ردّ بحماس: عبد الحليم حافظ ده عملاق، مش عاوزين نتكلم في حاجة زي كده.
يتبدى في الحوار إصرار مفيد فوزي على أن جيل عمرو دياب لا يبذل جهداً في اختيار كلماته، بينما يرد عمرو مصرّاً على أن هذا الرأي خاطئ: "أنا قعدت سنة كاملة لاختيار كلمات أغنية ميال".
كانت الإجابة بمثابة هجمة مرتدة لدياب، فوجد فوزي نفسه محاصراً فى حلبة الحوار، ليضطر إلى رد متلعثم: "من غير ليه" أيقظت الجمهور... فهز المطرب الشاب رأسه مستسلماً، وربما ساخراً، لكن فوزي أصرّ على الطعن في الجمهور، بقوله: هل الجمهور ذوقه اختل؟
يستنكر عمرو دياب السؤال، وتتقلص ملامحه امتعاضاً: والله العظيم بتظلموا الناس، يعني الناس اللي بتحضر حفلاتي دي.. جاية لي صدقة.. حرام عليكم بتظلموا الناس.. أنا لو مكنتش ناجح مكنش حد ناجح.
إجابات عمرو دياب تعبر عن رفضه للوصاية التي يمارسها مفيد فوزي على الجماهير المحبة لأغنية "ميال". وفوزي لم يكن الوحيد الذي يمارس هذا الاستعلاء على جماهير اتجهت إلى علي حميدة وعمرو دياب، وهجرت الذوق القديم. بل كان وراء فوزي، جيل عريض من النخبة البرجوازية المثقفة، المحتكرة لأدوات الإنتاج الموسيقى، تقاوم الموجة العارمة. وعجزُ هذا الجيل عن مقاومة هذه الموجة، جعله يستنكر نجاح عمرو دياب. واللافت، أن مفيد فوزي ما زال يعبّر عن امتعاضه من فن دياب، مثلاً في حوار تلفزيوني أجرته معه ريهام سعيد قبل أشهر. لكن إنجازات عمرو دياب تؤكد انتصاره على ازدراء مفيد فوزي لفنه، منذ ذلك الحوار قبل نحو 30 عاماً.

التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها