حجم الخط
مشاركة عبر
(*) "الصاد شين" أو أبناء الصحراء الشرقية جنسية اخترعها العقيد القذافي، حقيقةً لا خيالاً، تعتبر هي والكتاب الأخضر والنهر الصناعي العظيم من بنات أفكاره، بل هي الفكرة الوحيدة التي اكتملت وتحققت، فالنهر الصناعي العظيم ما زال لم يجر حتى الآن أو أنه لم يجر الجريان اللائق بعظمته، ومقولات الكتاب الأخضر تهاوت واحدة تلو الأخرى على صخرة إباء الشعب الليبي العظيم، وهو الإباء نفسه الذي أودى بالعقيد هو نفسه في نهاية المطاف، أما الصاد شين فتمخضت عن سلالة، عرق، نوع من الناس نصف مصريين ونصف ليبيين.
يوسا، الروائي العظيم، كتب روايته "حفلة التيس" عن ديكتاتور في أميركا اللاتينية، وعن غرابة أطوار اليدكتاتور اللاتيني. وعلى مبالغات يوسا في تبشيعه، إلا أنه لا يعدو شيئًا بالنسبة للشخصية الواقعية للقذافي الذي خطط لحكم ليبيا وهو صبي في الرابعة عشرة من عمره وحكمها وهو في العشرين، وحجم الفخاخ والخوارق التي اجتازها في هذه الفترة جعلته لا ينازع في كونه نبياً، وبما أن الأنبياء عادة يقتلون فها هو قتل أخيرًا كنبي قتله قومه.
وبعد نجاح ثورة الفاتح العظيم، بدا للعقيد الشاب الثائر الطامح أنه يحكم أرضًا بلا شعب، ثروات طائلة بلا حارس، الفارق الأكبر بين المساحة وعدد السكان، فجنَّس كل من أراد أن يتجنس من شباب القبائل العربية المصرية الذي سافر إلى ليبيا للعمل في السبعينات على اعتبار أنهم أصلاً هجرات من الغرب الليبي، وكان يطمح أن يستمر، ولكن المعركة التي وقعت بين العقيد والسادات أوقفت المشروع، وضمهم العقيد للجيش، ثم جمعهم في كتيبة وقيل جيشًا برمته لحسابه الشخصي.
والحقيقة أن العقيد كان يؤمن بمصر ويرى فيها الحارس الأشد والحصن المكين، ويرى فيها الشعب الأجدر بزعامته، ويقال أيضا إن بداية تجنيس "الصاد شين" ترجع إلى البحث عن سند في مصر، ليس طابورًا خامسًا، وإنما صوت قوي متغلغل يدافع عن ليبيا لو هاجمها الأعداء، عن الأرض التي لا حارس لها، ولحسن الحظ أنه موجود ومبرر ومستعد، أولاد العمومة من البدو المصريين، وهم؛ أي البدو المصريين لطالما ساعدوا أقاربهم من البدو الليبيين أثناء الاحتلال الإيطالي، ومنهم حمد باشا الباسل الذي كان يساعد عمر المختار بالمال والسلاح وحتى الفرسان الشجعان المهرة، ولما استشهد المختار أقام له حفل تأبين كبيراً بالقاهرة، ودعا إليه النخبة السياسية والفنية وحتى الرياضية في مصر، ولما ألغته السلطات محاباةً للاحتلال الإيطالي وزع موائدها على الناس، لكن العقيد للأسف "خد الهِدَارة". معروف أن العمالة المصرية المهاجرة ثلاثة أنواع، الماهرة تسافر إلى أوروبا و"النُّص نُص" تسافر إلى الخليج و"الميح" تمامًا، الهدارة تسافر إلى ليبيا، وهذا سبب مأساتهم، ومأساة القائد معهم.
المهم كانت الخطة أن يدعم العقيد شباب القبائل في مصر، يمنحهم الجنسية الليبية ويمدهم بالمال والفرص والامتيازات حتى يحققوا المكانة التي تسمح لهم بالدفاع عن ليبيا لو ألمَّت الملمَّات، وبدأ التنفيذ في مصر، ولكن السلطات المصرية ضجَّت من إغداق العقيد القذافي على فئة بعينها من المصريين، فانتقل التنفيذ إلى ليبيا، وبدأ إغراء شباب البدو المصريين بالسفر إلى ليبيا السبعينات والحصول على الجنسية والعمل والفرص التي لا تحدُّ ولا تردّ، وبمجرد نزول الشاب أو الشيخ أو أي بني آدم يقول إنه من قبيلة بدوية في مصر إلى ليبيا يعرف عليه في الحال، أي يأتي شيخ ليبي مسن ويسأله بعض الأسئلة يعرف منها أهله وعشيرته في مصر، ويحصل على الجنسية الليبية بشرط احتفاظه بالجنسية المصرية، على اعتبار أنه سيعمل في ليبيا وستفتح أمامه المجالات ويعود إلى مصر بثروة تمكنه من الدور المنوط إليه حسب خطة الزعيم.
وسافرت جماهير غفيرة من شباب بدو الفيوم والمنيا وبني سويف ومطروح طبعًا، ولكن لأنهم سافروا أساسًا للعمل، ولأنهم الدرك الأسفل من العمالة المصرية المهاجرة وقفوا في الخط، أقصد معظمهم يعني، وقفوا في الخط، لم ينطلقوا في المجالات المهيأة لجمع المال للعودة السريعة إلى مصر، وأغلبهم لم يشتغل أو لم ينفع في أي شيء اشتغل فيه... الخلاصة أنهم وقعوا في رقبة العقيد فقرر أن يشربهم، يستأثر بهم لمهماته الخاصة، النابهين النادرين طبعًا أخذ منهم حرسه الخاص ويده التي يبطش بها لما يعن له أن يبطش، والباقي ضمه إلى الجيش، وأرسل بعضًا منهم في دورة عسكرية تدريبية في إيطاليا لتعلم حرب الشوارع، ونفذ بهم كل العمليات الثورية التي نفذها حول العالم، ومد بهم كل الجمعيات والمنظمات الثورية التي كان يرعاها حول العالم، وأرسلهم لمناصرة الثوار والمتمردين في الفلبين وأيرلندا وإسبانيا وأميركا اللاتينية...
وكان بينهم "جِرْجارِش"، كان في كتيبة أو سرية أرسلها العقيد لمناصرة صديقه عيدي أمين على المتمردين في أوغندا، وبينما جرجارش وزملاؤه محلقون بالطائرة على مشارف أوغندا جاءت الأخبار بأن المتمردين أطاحوا عيدي أمين وأنه هرب خارج البلاد، واضطرت الطائرة للنزول في مطار الخرطوم بشبه معجزة، ومن يومها أعلن جرجارش أنه جرجارش، ومن يومها طلعت عليه جرجارش أي مناخلويا أو الخارج من مستشفى المجانين في اللهجة الليبية.
(*) مقتطف من رواية للمصري حمدي أبو جليل، بعنوان "الصاد شين" تصدر قريباً عن "دار ميريت"
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها