الثلاثاء 2016/06/07

آخر تحديث: 14:05 (بيروت)

بين الخيال الأدبي والهندسة العمرانية.. هل هناك مدن تموت؟

الثلاثاء 2016/06/07
increase حجم الخط decrease
في تجربةٍ استثنائية دمجت الأدب الروائي بهندسة العمارة والعمران، نظّم المركز العربي للعمارة وبيت الكتّاب الدولي، سلسلة محاضرات تمحورت حول التحولات المفصلية التي طرأت على المدن في العالم العربي، وأثرت في أشكال نموّها وتخطيطها، انطلاقًا من مفهوم "الهوية" المتبدلة وفق السياقات التغييرية، لثنائية "الزمان والمكان".


الندوة التي انطلقت من ثلاث نُقاطٍ متباينةٍ في خلفياتها – اجتماع، هندسة وأدب – استطاعت أن تخلق مزيجًا متجانسًا من مختلف الاختصاصات، وأخذت مدينة طرابلس نموذجًا، في مناظرةٍ حوارية دارت – داخل مبنى نقابة المهندسين (طرابلس) - بين الروائي جبور الدويهي، المهندس مصباح رجب، وعالمة الإجتماع مها كيال التي طرحت اشكاليات فتحت فيها باب النقاش مع الحاضرين. فمن نحن وإلى من ننتمي؟ ماذا يعني الأدب حول المدينة ؟ أين كان الأمان؟ كيف صارت الغربة؟ كيف تحولتْ المدينة وأصبحت منقسمةً لحيّزين واحد للفقراء وآخر للأغنياء؟ من قسّمها ووسّعها؟ ماذا بقي من هويتها القديمة؟ هل أخذت التحولات منحىً إيجابيًا أم كان سلبيًا؟ وهل هناك حقًا، مدنٌ تموت؟!

البداية من عالم السرد، افتتحها جبور الدويهي، وهو ابن الجارة زغرتا، بالحديث عن علاقته مع طرابلس، كأديبٍ عاصر المدينة منذ أيام الطفولة، بعدما تحولتْ إلى مكان أليف، وحيّزٍ روائيٍ خصيب.

الدويهي الذي يجد في المدينة القديمة فضاءه الأدبي الفسيح، يرى أنه ككاتب، يعيش حالةً من "النوستالجيا" إلى المباني الطرابلسية القديمة، التي شوّهتها التحولات العمرانية والارتسامات الجغرافية الجديدة. فمباني الباطون المستحدثة، وفق تعبيره، جافةً جرداء، لا تدخل الحيّز المزاجي لخياله الأدبي.

وأثناء قراءته أمام الحضور لصفحاتٍ من روايته "حيّ الأميركان" - التي تحمل اسم أحد أحياء طرابلس – سلّط الدويهي الضوء على خطّ ذهاب وإياب الشخصية الرئيسية انتصار، وعرّفنا من خلال هذا الخطّ، على أهم التحولات التي عاشتها المدينة المؤطرة حدودها بين أحياءٍ فقيرةٍ مهمشة، وأخرى دخيلةٍ مرفّهة. وفي محاولة خرقٍ لتصنيف الزمن التاريخي، تحدث جبور الدويهي عن التتداخل الزماني والمكاني، الذي لم يُبقِ شيئًا من أصالة طرابلس وهويتها، بعدما تحولت إلى نموذجٍ يحاكي انتكاسات المدن العربية التائهة في دوامة التحولات.


الحوكمة
هندسيًا، النتيجة واحدة مع اختلاف الأسباب. فمصباح رجب الذي وجد أن المعضلة بين العمران الهندسي والخيال الأدبي صعبة بعض الشيء، اعترف أنّ ما جاء به الدويهي صائبًا إلى حدٍّ بعيد، لا سيما في ما يخصّ أزمة تشويه المدينة القديمة التي تتنصل شيئًا فشيئًا من معالمها. واستنادًا إلى تجرتبه في وضع استراتجيات التخطيط المدني، اعتبر رجب أن أصل المشكلة يعود إلى مفهوم "الحوكمة"، الذي ترتب عليه بناء المدينة الحديثة، على أنقاض المدينة القديمة من دون العودة إلى الجذور المتأصلة في الماضي.


هذه التحولات، الطارئة على طرابلس، في البناء والتوسّع من الداخل نحو الخارج لا العكس، ليست مؤامرة حسب رجب، بقدر ما هي جزءًا من سياق الحركة الحداثوية، التي بدأت في أوروبا مطلع القرن العشرين قبل أن تمتدّ خارجها. لكن الفرق، أن أوروبا استطاعت أن تتوخى المخاطر وحافظت على طابعها رغم التجديد الحداثوي. أم نحن، فلم نستطع التوسّع إلى على حساب "الهدم"، الذي جعل المدينة قوالب باطونٍ خالية من الروح.

وبعد نقاشٍ طويل، أشارت كيّال إلى أن منطقة "التلّ" قد شهدت أولى التحولات التاريخية، إثر هدم السراي العثماني الذي يتوسطها. إلّا أن سفير لبنان السابق في مصر، الدكتور خالد زيادة، والذي حضر الندوة، أجرى مداخلةً صغيرة عرض فيها "اللحظات" المفصلية التي تعدّ أساسًا في تحوّل مدينة طرابلس. ولعلّ أهم هذه اللحظات، ترجمها فيضان نهر "أبو علي" عام 1956 الذي غيّر تقسيم المدينة وأثر على التوزع الديمغرافي لأبنائها. لكن، ومع حلول عام 1976، أتى فريق عملٍ خارجي، وأزال تمثال الرئيس عبد الحميد كرامي، من أجل تغييب المدينة وإبعادها، خصوصًا أنّه كان رمزًا كبيرًا يجسد معنى دمج طرابلس بالدولة اللبنانية.

على أن الجدل في الندوة لم ينتهِ، حول تحديد هوية طرابلس الأصلية، ما إذا كانت فينيقية أو فاطمية أو مملوكية أو عثمانية أو صليبية، تبقى الحقيقة، أن هذه التحولات القاسية التي تستنزف المدينة، تعكس واقع طرابلس كجزءٍ لا ينفصل عن المكوّن اللبناني، القائم على الفوضى وسوء التخطيط في شتى المجالات.

وبما أن المدينة عصية متمردة، تتحوّل بسرعة من دون النظر إلى الوراء، يبدو أن الحفاظ على أصالتها، هو مهمتنا الصعبة، وإلا، غدونا "غرباء". 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها