هل يُمثِّل الفيسبوك وسيلة لإصلاح اللغة العربية؟
سؤال لا شك أنه ينطوي، في نظر كثيرين، على تناقض داخلي، أو يُشكل حتى ضرباً من ضروب الغطرسة، إن لم نقل التجديف: فالفيسبوك مرادفٌ للسفاهة والإنحطاط، للسوقية والبذاءة
– وما حاجة العربية، لغة القرآن، للإصلاح أساساً؟
إلّا أنه السؤال الذي يتجلّى تدريجاً لقارئ الكِتاب الصادر حديثاً: "العربية على مَحَكّ شبكات التواصل"(*)، وهو عبارة عن أوراق ندوة أشرف عليها الباحث د.أحمد بيضون والصحافية منال خضر، واستضافتها "الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية - أشكال ألوان" العام المنصرم.
صحيح أن أحداً من المساهمين السبعة في الكتاب، لا يَطرح المسألة أعلاه على هذا النحو من الفجاجة أو حتى "الوقاحة". لكن معظمهم يُعَبِّر، صراحةً أو ضمناً، عن ضيقهم من حالة الجمود والتحجّر التي آلت إليها العربيّة، ويشيرون إلى اهتزاز علاقة هذه اللغة بالعالم المعاصر، كما أنهم يرون في شبكات التواصل – وفي الفيسبوك على الأخصّ – حقلاً شاسعاً لتجارب لغوية جديدة وحرّة قد تساهم في إعادة صياغة علاقتنا باللغة العربية.
في نص مُداخلتها، تتطرق الروائية المصرية منصورة عز الدين إلى بعض من الصعوبات التي تواجهها للتعبير، بواسطة الفصحى، عن كثير من مظاهر الحياة اليومية. تقول مثلاً: "أكتب مفردة 'التلفاز' فأشعر بالتكلف والزيف، أعود إلى 'التلفزيون' فأتردد كأنما استعرت شيئاً لا يخصني ولا يلائمني. أما مفردة 'المرناة' التي اقترحها مجمع اللغة العربية كبديل، فلا أظنني قد ألجأ إليها إلّا في مقام السخرية" (ص 73). تُضيف أن هذه الصعوبة في التعبير قد تتحول أحياناً إلى عجز، إذ أن هناك مصطلحات لا مرادف عربياً دقيقاً لها. بحسب عز الدين، العامية المصرية، بما أنها تستعير المفردات الإنكليزية بسهولة، لا تعترضها هكذا مشاكل، الأمر الذي يدفع الكاتبة "للإيمان أكثر بوجوب تقليص الفجوة بين العاميات العربية (...) وبين الفصحى الرسمية، لمصلحة الفصحى نفسها قبل أن تتحول إلى لغة ميتة خرساء مسجونة في قواميس يحميها كهنة اللغة" (ص 74). السبيل إلى ذلك "إحتلال اللغة"، أي الإستحواذ عليها وتحريرها من الكليشيهات والتعبيرات الخشبية، "وهو ما نجح فيه الشباب من مستخدمي الفيسبوك إلى درجة كبيرة" (ص 75) خلال ثورة يناير.
قد تلتقي عزّ الدين جزئياً مع الشاعر يوسف بزي، الذي اعتبر، في مداخلته، أن اقتران الفيسبوك بالثورات العربية كان بمثابة مزيج أدى إلى انفجار لغوي، نتجت عنه لغة جديدة واسعة التداول، عمومية وليست عامية بالمعنى الضيّق للكلمة: "هي ائتلاف من فصحى الكتابة المتداولة والشائعة، الصحافية المصدر، ومن عامية الكلام المحكي المصوغ بين الشارع والتلفزيون والوسائل الأخرى..." (ص 122). لا رقابة على هذه اللغة الفيسبوكية البسيطة، العفوية والساخرة، والتي، بحسب بزي، تلعب دوراً في انتشار المساواة والحرية والديموقراطية؛ هي نوع من التمرّد على الفصحى، أي لغة السلطة والنخبة في العالم العربي، و"الإنجاز الأبرز في كسر الإستبداد" (ص 123).
بالنسبة إلى بزي، "الستاتوس" هو زُبدة هذه اللغة العمومية الجديدة التي ظهرت في الفيسبوك: "الستاتوس هو أول فنّ ديموقراطي من صنيع الثورات العربية، هو اليوم الجريدة التي يكتب فيها ملايين العرب، بلا رقابة، بلا سلطة تحريرية (...)، جريدة يقرأها الجميع ويكتبها الجميع بمساواة تامّة في الفرص والمشاركة" (ص 123). يشرح بزي أن "الستاتوس" نوع من "دمقرطة الكتابة" التي صارت متاحة للجميع تقريباً ولم تعد امتيازاً تحتكره النخب الثقافية، ما قد يُسهم في كسرالصورة النمطية للكاتب والمثقف العربي، هذا الكائن السلطوي، المتعالي عن الطبيعة البشرية، المُحتقر لعامة الشعب، والذي هو "صنو اللغة الفصحة تحنّطاً واصطناعاً" (ص 125).
الباحث أحمد بيضون لا يبدي القدر نفسه من التفاؤل: "العالم الإفتراضي أو الحياة الإفتراضية، على النحو الذي يعرضان لنا فيه على الفيسبوك، خصوصاً، إنما هما عالم وحياة مشابهان، من وجوه رئيسة، للعالم والحياة الواقعيين" (ص 17). فحتى في شبكات التواصل، يشير بيضون، نجد تفاوتاً في الحق في الكلام، كما نجد مراتب العالم الواقعي كلها أيضاً، أي الحاكمين والمحكومين: هناك في الفيسبوك مثلاً، المثقفون والمشاهير والساسة الذين يُلاقي كلامهم رواجاً واسعاً من جهة، والعموم الذين قد لا يملكون القدرة ذاتها على الكلام من جهة ثانية.
غير أن بيضون لا ينكر بتاتاً أن ما نَتج عن شيوع استخدام شبكات التواصل في العالم العربي يُشكّل ثورة على صعيدين. أولاً، أتاحت هذه الوسائل "توجُّه العموم إلى العموم بلسان العموم" (ص 15)، أي نوع من التمرد على احتكار الكلام في الفضاء العام كما هي الحال مثلاً في التدريس وفي الخطابة الدينية أو السياسية. أما ثانياً، فقد سمحت شبكات التواصل باعتماد العامية لغة مكتوبة لكلام كان يفترض فيه أن يُقال مُشافهة، وذلك على نطاق بالغ الإتساع، لم يعرف العالم العربي مثيلاً له من قبل؛ كما أتاحت أيضاً اعتماد الفصحى، وإن على نطاق أضيق، كلغة حوارية فورية، الأمر الذي كان حكراً على العاميات. بحسب بيضون، سيَنتُج حتما عن هذا التجاور بين العاميات والفصحى، تفاعلاً، ما زالت ملامحه غير واضحة حتى الآن. تفاعل قد يكون مفيداً للغة العربية ولعلاقتنا بها، فيستوي عندها "العالم الإفتراضي بما فيه، على الخصوص، شبكات التواصل، قاعدةً جديدة نتلمّس فيها أو نبني عليها خطط إصلاح تحتاج إليها العربية وأهلها أيّما احتياج" (ص33).
"علاقتي باللغة الفصحى (...) علاقة قرآنيّة أولاً، معطوفةً على كونها لغة خطابية" (ص 81)، يقول الروائي هلال شومان في مداخلته. يشرح أنه بالرغم من معرفته المديدة بشبكات التواصل وكتابته عليها كثيراً، منذ بدايات شيوعها في العالم العربي، وجد نفسه لاحقاً يهرب من استخدام العامية في الكتابة الروائية، وخصوصاً في الحوار الذي يعمد إلى تقصيره، ذلك لأنه كان يشعر أن العامية تكسر "جمالية لغوية ما في الرواية" (ص 95). يعود إلى علاقته باللغة "على أساس قرآني ومن ثَمّ شعري"، فيتساءل: "هل المطلوب من اللغة دائماً وفقط أن تكون انتقاءات ألفاظ وتركيب جمل ومقاطع بشكل مبهر؟ ولماذا تكون البداية من اللغة لا من الوسيط / القالب الذي تستخدَم فيه اللغة نفسها" (ص 96). ربما هذه التساؤلات هي ما دفع شومان إلى استخدام العامية بشكل أوسع في الرواية التي يعمل عليها حالياً، كما يقول في ختام نص مداخلته.
بالرغم من النبرة المتفائلة وحتى الحماسية التي تطغى على نصوص هذا الكِتاب، يشعر القارئ أن هناك استياءً عارماً لدى أغلب المساهمين فيه، وهم جميعم من ممتهني الكِتابة على أنواعها، أكاديمية أو أدبية أو صحافية: إنه استياء من لغتهم، التي قد تصبح في يوم من الأيام، عاجزة عن التعبير عن كثير مما نتفوه به بالعامية، أي عن الكثير مما نفكر ونشعر به.
(*) "العربية على مَحَكّ شبكات التواصل". تحرير: أحمد بيضون ومنال خضر. المؤلفون: أحمد بيضون وعماد عبد اللطيف ومنصورة عز الدين وهلال شومان ورستم محمود ويوسف بزي وفريدريك لاغرانج. صدر عن "أشكال ألوان"، 2016. 182 صفحة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها