الثلاثاء 2016/04/05

آخر تحديث: 11:15 (بيروت)

مارغريت ديمون ضحية الفنّ

الثلاثاء 2016/04/05
مارغريت ديمون ضحية الفنّ
اهتمام مارغريت بالغناء لم يكن مجرّد هواية من قبيل ما تتخذه صاحبات القصور للخروج من مللهنّ.
increase حجم الخط decrease

كانت الاستعدادات جارية على قدم وساق لتبدأ البارونة مارغريت ديمون وصلتها الغنائية. المدعوون ملأوا قاعات الاستقبال، الموسيقيون باتوا جاهزين وهم بدأوا العمل التقديمي الأول مصاحبين إثنين من المغنّين ممن لم تشتهر أسماؤهم بعد، وعن أحد أسوار القصر العالية يقفز شابان لينضما خلسة إلى الحضور، من دون أن يكونا مدعوّين. كل التحضيرات اكتملت بانتظار أن تخرج البارونة من غرفتها، بما في ذلك التقديم الأكثر بلاغية الملقى أمام النخبة الأرستقراطية الحاضرة. كل شيء يوحي بأن من ستظهر بعد قليل، ومن سيُسمع غناؤها، إحدى نجمات زمنها. بدت غريبة زينتها عندما راحت تتقدّم في ردهات القصر، وإذ ظهرت أمام الجمهور المنتظر بدت تلك الريشة الكبيرة المرتفعة من رأسها مثل شراع علامةً فارقة على تلك الغرابة. وحين شرعت بغنائها الذي بدا كارثيا من لحظته الأولى، إنكشفت على الفور الأدوار التي توزّع بينها الحاضرون: بعضهم همس في أذن من كان إلى جانبه، بعض آخر كان قد لاذ مسبقا بقاعة مجاورة بانتظار أن ينتهي الغناء، بعض ثالث أطلق تصفيقا مجاملاً زائفاً، وعلى وجوه الخدم ارتسمت علامات الإعجاب الصامت والمفتعل، فيما زوج مارغريت المغنية يصل في لحظة الإنتهاء تلك متذرّعاً بأن محرّك سيارته أخّره عن تلبية توقه إلى سماع غناء زوجته.

اهتمام مارغريت بالموسيقى والغناء لم يكن مجرّد هواية من قبيل ما تتخذه صاحبات القصور للخروج من مللهنّ. كان شغفاً حقيقياً تحملت من أجله التمارين المرهقة، بل والمذلّة، وأوقعت نفسها بين أيدي وصوليي أجواء العروض الغنائية والمسرحية في باريس. بعض هؤلاء عمد إلى دفعها إلى أكثر المواقف حرجاً مستغلّا جهلها التام بذلك الجانب من الحياة الفرنسية، تلك التي لا يقل التزييف والكذب فيها عن أكثر الأجواء اختلاطاً وفساداً. فهنا، في عالم الفن هذا، يكون كلّ شيء مقترباً من حافة الجنون. من ذلك مثلاً الهيئات التي يتخذها أهل الفن والأزياء التي يرتدونها، ومن ذلك أيضاً مزجهم السخرية بالوطنية والحقيقي بغير الحقيقي. وقد نقل الفيلم ذلك في الحفلة التي دعا إليها ذلك الفنان الشاب، الفوضوي، جامعاً جمهوراً خليطاً من العمال والأرستقراطيين والجنود وأهل التجارة الذين ظنوا أنهم جاؤوا لحضور نقاش يخصّ أعمالهم، فيما قال حاضرون آخرون إنهم لبوا الدعوة لأن شارلي شابلن سيكون هنا. أما مارغريت فلم تكن تعرف، على جاري عادتها، أنه جيء بها لكي يُسخر من غنائها للنشيد الوطني الفرنسي فيما جُعل ثوبها الأبيض شاشة يعرض عليها شريط سينمائي لجنود يقضون في أهوال الحرب العالمية الأولى.


فيلم مارغريت هو إدانة لصناعة الفن الفرنسية آنذاك في مطلع العشرينات. في أمكنة العروض الفنية تظهر الكواليس كأنها أماكن لتدبير المكائد وتظهر الصالات مراتع للمصفّقين المأجورين لينقلوا عدوى تصفيقهم إلى الجمهور. أما الفنانون، أو من هم في مصافهم، فلا يتورّعون عن ارتكاب أحطّ الأفعال طالما أن كل شيء يمكن تأويله بالسخرية أو حمله على محمل الإبداع.

مارغريت ديمون هي ضحية هذا العالم، وهي كذلك حتى من قبل أن تعرفه وتقع في حبائله. كانت شديدة التصديق لما يوصف به الإبداع، خالية من المكر المصاحب له والنابت حوله. ولقد ذهبت، هي المحبّة لمن حولها والتي لا تعوزها الحكمة في أمور الحياة الأخرى، إلى ما يتعدّى الحدّ الفاصل بين الاختلاف القصدي والجنون الذي يميّز سلوك الفنانين. تلك الصور التي كانت تلتقط لها كانت الجنون بعينه، في مرّة تظهر في موقف الخوف، في مرّة أخرى تظهر وهي تحمل رمحاً، وفي ثالثة تظهر مرتدية زيّ مقاتل من أيام الرومان، ثم عارية عري بنات المجلات المصوّرة. وفي طريقها للغناء أمام جمهور عام، أظهرها مخرج الفيلم واقفة في السيارة المكشوفة المسرعة، حاملة رمحاً يعلوه شعار غريب لتبدو كأنها ذاهبة لافتتاح مدينة.

في التقديم للفيلم أنه يستند إلى قصة حقيقية جرت في 1920، حيث فرنسا الخارجة من الحرب الأولى، وحيث يبدو الزمن كأنه يبدأ من جديد بعد زوال ما كان سبقه. مارغريت، البارونة الثرية صاحبة القصر، الفنانة من دون موهبة، خاضت نضالاً لا يكلّ من أجل أن تلتحق بزمن الأوهام الجديد.


* فيلم "مارغريت" للفرنسي كزافييه جيانولّي، الذي أدت بطولته كاترين فْرو، يعرض الآن في بيروت.      

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها