الخميس 2016/04/21

آخر تحديث: 13:30 (بيروت)

الاستخبارات والسياسة في صناعة نجوم الثقافة

الخميس 2016/04/21
الاستخبارات والسياسة في صناعة نجوم الثقافة
كونديرا
increase حجم الخط decrease
في زمن غابر، كان "الغرب السياسي" يختار بعض الأدباء الروس والأوروبين الشرقيين المنشقين (سولجنتسين، برودسكي، كونديرا...) ويدعمهم بقرار سياسي لمحاربة الشيوعية وتمدّدها وثقافتها. بعض تلك الأسماء كان جديراً بالقراءة، وبعضها الآخر لم يكن يستحق أي اهتمام. لفظة "منشق" كانت كافية لإثارة الغواية الأدبية ولفت الإنتباه والمتابعة والرواج العالمي، مع التذكير بأن كاتباً مثل التشيكي إيفان كليما فضّل أن يكون كنّاساً في بلده على أن يكون منشقاً في أحضان الغرب.


كتاب "الحرب الباردة الثقافية" لفرانسيس ستونر سوندرز يحتشد بأسرار تدخل الاستخبارات الأميركية في توظيف الأدباء في المجال السياسي.. على مدى أكثر من عشرين عاماً كانت وكالة المخابرات الأميركية تدير جبهة ثقافية عريضة في معركة ضارية تحت شعار حرية التعبير. أسماء كبيرة تورطت في هذا المجال، من جورج أورويل إلى جان بول سارتر.

لبنان الأدبي كان له حصته في القرارات السياسية الغربية، كتب الناقد المصري غالي شكري في رسالة إلى رئيس تحرير مجلة "حوار" الشاعر توفيق صايغ: "ضاع العمر. فبعد كل الشقاء والحرمان وأسوار المعتقلات أراني في لحظة واحدة أكلت خبزي، وأكل أولادي معي، من الكتابة في مجلة يمولها الإستعمار"، وذلك عندما كشفت "نيويورك تايمز" عن تلك العلاقة التي تربط المجلة بالمخابرات الأميركية وتمويلها. 

مجلة "حوار" كانت صدرت بعد مجلة "شعر" في مطلع الستينيات في بيروت وتوقفت في العام 1967، وقد طالتها الأقاويل حول علاقتهما بالمخابرات الأميركية لأنها كانت تمول بواسطة "منظمة مؤتمر الحرية للثقافة" المدعومة من "مؤسسة فورد". بالطبع، من يعطيك شيئاً يريد منك أشياء. وكان لبنان خاصرة جذابة لتسويق التيارات الأدبية، وهذا أمر إيجابي.

حتى الحضور الكثيف للشعراء العرب لا يبتعد عن القرار السياسي. محمود درويش كان السياسة بحد ذاتها، ربما هو "المناضل قبل الشاعر". كثيرون وجدوا فرصة لكتابة الشعر على أجنحة الثورة الفلسطينية، بعضهم "استفاد" أو تسلق، وبعضهم تدحرج، وبينهم استطاع درويش أن يكون شاعراً مركزياً بقرار سياسي. شعره استطاع أن يكون رأس حربة سياسية، ولاحقاً استطاع أن يخرج من شرنقة القرار السياسي نحو الأدب. 

مع سقوط الشيوعية في نهاية الثمانينات، بدأت تظهر ملامح أيديولوجيا جديدة تحاول أن تكون بديلاً من فراغ نهاية الشيوعية. برز الإسلام الإحيائي والإنتحاري والجهادي وتنامت الهويات العرقية والإثنية، وبدأ الغرب يبحث عن مواجهة خصومه بمشاريع ثقافية، أو توظيف الأدب في السياسة، من أفغانستان حيث برز عدد لا بأس به من الروائيين، إلى الجزائر متمثلة بالروائي ياسمينا خضرا. ولا أحسب أن هذا الأخير اختير لأدبه بل لخلفيات مواقفه وحركاته.

الذاكرة الثقافة والكولونيالية لها حصتها في توظيف الأدب لمصلحة السياسة، بعد سنوات قليلة على إنتهاء الحرب اللبنانية وبدء إعادة الاعمار، وجدت فرنسا أن إعادة مجد الفرنكوفونية المتصدعة في لبنان باتت واجباً، فدعمت الروائي أمين معلوف بقرار سياسي. قد ينزعج البعض من هذا الر أي، لكن كثيرين يعرفون أن فوزه بجائزة "غونكور" عن روايته "صخرة طانيوس" غلب عليه الطابع السياسي.. وما زالت فرنسا تحاول تدعم بعض الكتاب العرب من أجل "نسيان الإثم الكولونيالي". لنتخيل مدى الدعم الذي لقيته رواية "معارضة الغريب" للجزائري كمال داود، فقد ترجمت إلى عشرات اللغات بتمويل فرنسي. من يقرأ الرواية سيسأل لماذا كل هذه المبالغة في الترويج لرواية عادية ترد على رواية "الغريب" لألبير كامو؟

غواية المنشق ما زالت سائدة وإن بوتيرة أخف.. ثمة روائيون كثر "إنشقوا" من الصين واشتهروا في باريس، أبرزهم غاو غيسنغيان. وأكثر من إيراني وإيرانية لهم حظوظهم في أميركا وأوروبا، آذر نفيسي نموذجاً. ولا تختلف الأمور في العالم العربي، الثقافة الغربية تبحث عن غواية ما تمجّدها في إعلامها، فعدا عن عالم "ألف ليلة ليلة"، تستهوي الغرب فكرة المثلي الإسلامي، أو الشيعي الذي يحب الغرب، أو العلوي اللذي يكره آل الأسد، أو العربي الذي يتهم الإسلام بالارهاب، أو العربي الذي يتماهى مع إسرائيل... الخ. 

والحال أنه مع ما ذكر أعلاه، لطالما كان اهتمام الإعلام الغربي ببعض الأدب العربي وبترجمته من المشكلات التي تحمل كثيراً من التأويلات والمعطيات حول أدوار العلاقات العامة والنفوذ واللوبيات في الثقافة. ولطالما كانت الكتابة في الصحف الغربية عن الأدب العربي مشكلة، تتجلى في اختيارات الغربيين أولاً، وفي أهدافهم وطموحاتهم. هذه القضايا تطرح أسئلة عديدة، منها لماذا يختار الغرب أدباً ما بحد ذاته؟ ما هي المعايير الشخصية والهوياتية والسياسية والدينية والجندرية التي تجعل يدعم هذا ويتجاهل ذاك؟  

لا شك في أن "الإنشقاق" يغوي، إذ يلجأ المنشق عادة إلى تعرية الواقع والسلطة ويتحدى السلطة والنظام ويزعزع المفاهيم، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن كل منشق ينجح في مهمّته، فثمة منشقون فقاعات، أسماء عابرة وسط ثقافة الموجة.. قد يستفيد هذا أو ذاك لمرة واحدة من مبيعات كتبه، ثم يختفي. وبالنتيجة، ليس بالمقالات التسويقية وحدها يحيا الأدب والأديب.

ذات مرة سُئل ميلان كونديرا: "هل أنت شيوعي؟". "لا، أنا روائي". "هل أنت منشق؟". "لا، أنا روائي". "هل أنت من اليمين أو اليسار؟"، "لا يمين ولا يسار، أنا روائي فقط".

أعتقد أن كثيرين لا يهتمون لقوله وقصده، ويفضلون الإنشقاق على الأدب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها