الإثنين 2016/04/11

آخر تحديث: 11:48 (بيروت)

حين لم يكن أحد يعادي أحداً

الإثنين 2016/04/11
حين لم يكن أحد يعادي أحداً
increase حجم الخط decrease
لم يكن الشيخ "عشيق" إبن التاجر رشدي الشركسي الإنطاكي في حاجة إلى مدوّن يملي عليه سيرة حياته لو لم تكلّ يداه وتتهرآن لكثرة ما انشغل بترجمة الكتب. كان عليه أن يعوّض عن إضاعة عمره في الإنتظار واللهو، فآل على نفسه أن يعمل بكدّ كان من ثماره ترجمته كتباً بينها كتاب الإعترافات للقديس أغسطين. وهو، في بحثه عن مدوّن، وجد شاباً قادما من بغداد إسمه يوسف بن أيبش ما زال في مقتبل عمره. أما الحكاية التي سيعملان على تدوينها فهي الرحلة التي قام بها المترجم عشيق إلى روما واستغرقت ستّا وخمسين سنة من حياته، من دون أن يعود مرّة واحدة إلى إنطاكية، مسقط رأسه، زائراً أو متفقّداً.

كان قد اتجه إلى روما في العام 1708 على متن باخرة حملته وثلاثة آخرين كانوا ساعين مثله إلى دراسة اللغتين الإيطالية واللاتينية. كان المسلم الوحيد بينهم، وهذا ما جعله عرضة للنظرات المتشكّكة والزاجرة أحياناً، وهذا ما كان رفاقه يجرونه على بعضهم البعض على أيّ حال بسبب اختلاف المذهب بينهم، هم المسيحيون. لكن عشيق، الماكث متذكّراً ما مضى من حياته، استطاع أن يتجاوز تلك النظرات النابذة بعد سنوات من إقامته بين كنائس روما وسماع أصوات نواقيسها، فأكمل حياته مسيحياً متنصّراً، وتاركاً نفسه من ناحية أخرى لطوافه لاهياً في الأمكنة.

لم تحفل حياته بمجريات كثيرة، لكن ما يستحقّ أن يُدوّن هو وجوده، هو المسلم العثماني القادم من إنطاكية، في تلك البلاد. وهذا أيضاً ليس بكثير طالما أن إقامته كادت تقتصر على عيشه بين أولئك القليلين والتجوّل على ضفة نهر التيبر. لم يظهر له ذلك الإختلاف بين الحضارتين كبيراً إذ اقتصر ما لفته على ما كان صادماً في البداية، وهو أُهمل بعد ذلك إذ اعتاد عشيق على العيش هناك. ولهذا ربما بدت الرواية رتيبة في الصفحات التي أعقبت صفحات التقديم وسبقت فصول نهايتها، تلك التي تصف حنين عشيق إلى بلده وعودته إليه. أما في الوسط فنحن نقرأ، مرّة أخرى، ذلك الأدب الخاص بمقاربة البلدان الذي عرفناه مع أمين معلوف واسكندر نجار وسواهما. وهو الأدب الذي يأخذ البلدان بالجملة مركّزاً على مسائل الخلاف المعتادة وفي أولها الإختلاف في الدين وما يستجرّه من تنابذ طفيف لا يلبث أن ينحلّ سريعاً ويتلاشى. ذاك أن سرائر البشر ليست في الخبث الذي نعتقده، بحسب هذا الأدب، وهذه السرائر لا تلبث أن تُظهر عن حسن نوايا بعد تجارب لن تكون مضنية على أيّ حال.

وقد سُبق جان دوست كاتب الرواية إلى ذلك التآلف بين الدينين أو الحضارتين، فها هو يؤاخيهما في ذات بطله عشيق المسلمة والمسيحية معاً، من دون تناقض أو تنازع بينهما. لقد أحلّ عشيق الإعتقادين في نفسه متسالمين لا يطعن أحدهما بالآخر ولا يحاول إضعافه، وهذا من دون أن يسبق ذلك التآخي زمن من الشكّ المقنع لقارئه.

هو ضرب مما يمكن وصفه بالأدب الجميل، حيث لا تتشوّش الأفكار ولا تذهب الظنون إلى ما هو مقلق ومفارق وإشكالي، بل ومأسوي في حياة البشر ووجودهم. المترجم عشيق بطل من دون بطولة إذ لم تعرّضه الحياة لمواجهة مسائلها المستعصية ولم يكن ضحيّة لأيّ من معضلاتها. لقد عاد إلى بلده حين استبدّ به الحنين إليه، ولم يكن كارهاً لماضيه الذي لا نعرف إن كان قد ذهب سدى أو أنه أكسبه ما لم يكن ممكناً تحقيقه من دون سنوات الهجرة والإنفصال.

هو نوع من أنواع الرواية نعرف حين نبدأ بقراءته على ماذا نحن مقبلون، كما نعرف أيضاً أن ما نقرأه سيكون جميلاً ومسلياً وأنه لن يرهقنا بإثارته مشكلات الحياة الأكثر إقلاقاً وعبثاً.


*"نواقيس روما" رواية جان دوست صدرت في 207 صفحة عن "دار الساقي"، 2016.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها