الخميس 2016/03/24

آخر تحديث: 10:31 (بيروت)

الصناعة الأحدث للعقل السخيف

الخميس 2016/03/24
الصناعة الأحدث للعقل السخيف
الفيلم لم يكن أكثر من دعاية بلهاء لإنسانوية الدول الكبرى
increase حجم الخط decrease

يبدأ فيلم "عين في السماء" بتلك الرقصة الفاتنة التي تؤدّيها الفتاة الإفريقية عليا متمايلة مع دوران الهيلاهوب حول جسمها. وهكذا ينتهي الفيلم أيضاً حيث سيزداد الرقص، مع لقطات الفيلم الأخيرة، فتنة ورهافة. فالفتاة عليا، ابنة التاسعة، هي الضحية التي لم تتمكن حكومات الدول، وفي مقدمتهما بريطانيا والولايات المتحدة، المشاركة في تلك العملية لمكافحة الإرهاب، من تفادي قتلها. لقد أتت عليا، حاملة الخبز الذي ستبيعه، إلى محيط ذلك المنزل المستهدف في اللحظة التي نالت فيها قائدة العملية العسكرية كاترين باول الإذن بقصفه. ولم يكن ممكنا أن تنتظر تلك الدول، ممثّلة بمسؤولين فيها جعلت مكاناتهم تتصاعد حتى بلغت رئاسات تلك البلدان، إنتهاء الفتاة عليا من بيع كلّ أرغفتها. ففي ذلك المنزل، المراقب داخلُه بعين تلك الحشرة الميكانيكية الطائرة، كانت تتسارع الأحداث الأكثر خطورة. لم تعد العملية مقتصرة على خطف القادة الإرهابيين الأربعة، بل تحوّلت إلى قصف المنزل بمن فيه بعدما أُدخل إليه إرهابيّ شاب بدأ تفخيخه بالمتفجرات كأنما ليبدأ عمليّته على الفور.

ذلك التسابق السريع، الهوليوودي، بين القيام بقصف المنزل فوراً وبين التريث حتى تخلي الفتاة الموقع القريب استحوذ على القسم الأكبر من مجريات الفيلم. قادة تلك الدول، المتصاعدة رتبهم ومسؤولياتهم كما هو مذكور أعلاه، لا يستطيعون التضحية بفتاة بريئة من ضمن ما يسمّى في عمليات كهذه collateral damage. وهنا وُضع مشاهدو الفيلم بإزاء المقارنة بين التضحية بالفتاة أوالتضحية بثمانين مدنيا سيقضون بالإنفجار الذي يُعدّ له في الداخل، وذلك بالترافق مع تلك الحيرة الشاملة التي أحاقت بالجميع، والدموع التي ذرفت من قبل الطياريْن المسؤولين عن إطلاق الصاروخ نحو المنزل، وتحوُّل الفيلم في نهايته إلى أن يصير دراميا بعد أن كان بوليسيا وعسكريا...

لقد وقع المشرفون على العملية، وكذلك قيادات بلدانهم، في الحيرة والحزن على الرغم من أنهم لم يعرفوا عن الفتاة ما عرفه مشاهدو الفيلم. لم يروها وهي تراقص الهيلاهوب، ولم يعرفوا بذلك التأنيب اللطيف الذي أتاها من والدها لأنها بدأت رقصها أمام زائر متعصّب. لم تكن عند أولئك السياسيين والعسكريين إلا رقما، روحا واحدة، قتيلا واحدا بمقابل ثمانين سيجري إنقاذهم (بحسب التقدير المسبق لقائدة العملية، والذي جعلنا، فيما نشاهد الفيلم، نتساءل عما مكنها من تقدير هذا العدد، هي التي لا تعلم أين سيقع الإنفجار ولا يمكن لها أن تتنبأ بما سيخلّفه). لكن ما لم يذكره الفيلم، بل ولم يضمره أيضا، هو أن الثمانين سيقتلون على يد ذلك الإرهابي أما هي، عليا، فعلى أيديهم هم.

وقد خرجنا من الفيلم ونحن نقول إنه لم يكن أكثر من دعاية بلهاء لإنسانوية الدول الكبرى، لكننا في الوقت نفسه، أخذنا نقرّ بأنه خطف أنفاسنا على مدى الدقائق المئة التي استغرقها عرضه. كنا، صاغرين، مشدودين إلى الفتاة التي وقفت وراء أرغفتها، منتظرين مثلها أن يسرع الزبائن في المجيء حتى تجمع أغراضها القليلة وتغادر قبل أن يهبط الصاروخ ويقتلها. بل صرنا نقول هذا زبون وصل.. لقد اشترى رغيفا واحداً من السبعة الباقين، يا الله! هذا وفيما نحن مدركين، في القطب الثاني من مشاعرنا إزاء ما نرى، أن العقل الذي ينتج هذا التشويق المحكم عقل سخيف. إنه يؤلّف حكايات متواصلة يظهر فيها عن نظرته لنفسه، نظرته ذاتها التي تثبت له إلى أيّ حد هو مغرق في إنسانيته. لا إشكال درامياً جديداً تأتي به هذه الصناعة التي لا تفتأ تتقدّم إلى الأمام بسرعة بات من غير الممكن ضبطها. "يظنوننا حمير" قال أحد الخارجين من الفيلم، ظاناً ربما أنه أُنتج لكي يعرض في بلداننا فقط.

*فيلم "عين في السماء" لغافين هود يعرض حالياً في الصالات اللبنانية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها