الجمعة 2016/03/18

آخر تحديث: 11:47 (بيروت)

فاطمة الحاج لا تريد أن تلطّخ حدائقها

الجمعة 2016/03/18
increase حجم الخط decrease
 
تحتضن صالة "ألوان"، معرضاً لأحدث أعمال الفنانة التشكيلية فاطمة الحاج المشغولة كما اعتاد جمهورها بحس مُرهف واستمرارية في اعتناق مذهب التأمل في الوجود والخلق من خلال اللون وتشعباته. تشعبات تبدو في لوحاتها المختلفة الأحجام، لا تعد ولا تحصى.

إذا كان زائر المعرض يتوقع رؤية أعمال جديدة مغايرة لذلك التوجه الفني الذي حفر بعيداً في نفس الفنانة حتى صار جزءاً منها فهو مُخطئ. سيعثر من جديد على هذا الولع المُتجدد دوماً باللون، ليس كمادة تستخدمها لتظهير الأشكال والشخوص الموجودة في لوحتها، بل كعنصر أوكلت إليه مهمة نحت الشكل، وإقامة الحدود في ما بين أجزاء اللوحة، شاحناً إياها بغنائية تعبيرية قلً مثيلها في اللوحة التشكيلية اللبنانية الحديثة.

غير أن هذا "الثبات" شبه العقائدي على السلطة المُطلقة التي تعطيها الفنانة للون لم يأتِ في أي معرض من معارضها بشكل استعادي لا تجدد فيه.

اللون عند فاطمة الحاج دائم التحول، لأن الفنانة تتناوله كمادة حيّة تكون عُرضة لشتى التفاعلات والإنتكاسات. اللون في منظارها كائن لا يمكن التكهن دائما "بانزلاقاته" بعيداً عما أعدت له من سيناريوهات. ولولا خبرة الحاج الكبيرة في التعامل معه لاستطاع في انزياحاته أن يخّرب لوحتها.

هكذا، بفعل هذا التحاور الحي بين صاحبة اللوحة وشريكها في صناعته، أي اللون، تجيء لوحتها مُكتنزة لـ"المفارقات التشكيلية"، إذ صح التعبير والتي تأخذ الناظر إليها في أحيان، بعيداً من النص البصري الذي أرست أساسه الفنانة في اللوحة.

تطلق فاطمة الحاج سراح اللون بعيداً في أرجاء لوحتها، مُدركة تماماً أن الكلمة الأخيرة هي لها وحدها في اللوحة. هذا الغنى الذي يتمازج فيه الغامض والواضح قّرب لوحتها في أحيان كثيرة من الفن الرمزيّ، الذي تدثر باللون ليكون المشير إلى أفكار ومشاعر وحالات غير مرتبطة ارتباطاً مباشراً بما تراه العين في اللوحات. نعثر على هذا الغنى في اللوحة التي يغلب عليها اللون الأزرق وتمثل شخصاً يُضيء وهو مُضاء في الآن ذاته. وأيضا نجد ذلك في اللوحة اللتي تتميز بأصفر ذهبي، تظهر في عمقه امرأة جالسة على مقعد وأمامها بضعة زائرين لحديقة تحتضنهم وكأنهم رحيق أزهارها.

أما في لوحات أخرى تبرع الفنانة في خلق جوّ من التشويق يستسيغه المُشاهد فهو ما أن يبدأ برؤية حديقة ملونة حتى تختفي تلك الحدائق من على سطح اللوحة لتبقى النسغ الباطني الذي يعطيها الحياة والإيقاع المختلف الوتيرة. نذكر من هذه اللوحات، اللوحة اللتي تبدو فيها عازفة بيانو لا يمنع ثوبها الأبيض الناظر من رؤية التموجات اللونية اللتي تتكثف من خلفها. وأيضا هناك لوحة القيثارة وهي ربما من أجمل اللوحات المُشكلة ببراعة صارمة وشاعرية في الآن ذاته. ربما تكون اللوحة التي يطغى عليها اللون الأزرق اللتي ذكرناها آنفاً هي أيضاً من أجمل اللوحات المعروضة.

الفرح والحزن، والسكون والضجيج، والأمل والملل لهم حضور موّحد في اللوحة الواحدة لأنهم حصيلة معايشة يومية لعالم مليء بالتناقض. غير أن الفنانة لا تختار هذا المكان دارا لها. فهي تقيم  خلف أسوار الضوء. ضوء استحضرته حيناً وصنعته بنفسها حينا آخر. هي كما عدد قليل من الفنانين التشكيلين، لا تريد أن تلطّخ حدائقها، الظاهرة للعيان وتلك التي تختبىء خلف خامة لوحتها، بالألم والعنف اليومي الذي يشهده عالمنا العربي المعاصر. فما نراه بشكل يومي لا حاجة له أن يجد طريقه أيضا إلى لوحتها. سيّجت أسوارها عبر السنين، جعلتها وامضة ورقيقة بحيث يمكن لها في أي لحظة أن تخترقها لتكون في المقلب الآخر من العالم، إلى قلب الواقع الراهن الملوث برماد الحروب والأزمات.غير انها ما تلبث أن تعود إلى حدائقها حيث ترعرع العشب النضر تحت وهج ريشتها. تعود إلى حدائقها حيث انتمت وربما ستنتمي دوماً. 
 
(*) "غاليري ألوان"، صيفي فيلدج، يستمر إلى الرابع والعشرين من آذار.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها