الأربعاء 2016/02/24

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

الصبايا والحريم في جامعة القاهرة

الأربعاء 2016/02/24
الصبايا والحريم في جامعة القاهرة
جامعة القاهرة في الستينات
increase حجم الخط decrease
نُشِرت في شبكات التواصل الاجتماعي صورتان، تفصل بينهما 55 سنة، تحوّلت جامعة القاهرة في أثنائها مزاراً دينياً. وقد يكون وصف الصورتين في معرض المقارنة بينهما واستنطاقهما، أجدى من السخط والغضب واللطم والنحيب على ما أصاب القاهرة وجامعتها وطلبتها، وكذلك بيروت والجامعة اللبنانية وطلَبتها. كما ان المقارنة الهادئة أنفع من عادة إطلاق الحنين الى زمن الصورة الأولى: الستينات التي فاتت وانقضت، ولا ينفع التحسّر على فواتها وانقضائها.

الصورة الأولى بالأسود والأبيض. وتعود الى سنة 1960. وهي لفتيات أو صبايا جامعيات خمس، تمشين منطلقات فرحات. الهواء الطلق يداعب شعر رؤوسهن المكشوفة ووجوههن المبتسمة. كأنما في حركتهن وخطواتهن متقاربات أفقياً في ملعب الجامعة، شغفُ استقبالهن الزمن الآتي الذي كانت شابات الستينات الجامعيات موعودات أو حالمات به، بعد اجتيازهن مرحلة التعليم الثانوي، وخروجهن من كنف الأهل والبيوت إلى رحاب استقلالهن الشخصي بأنفسهن وصداقاتهن في علانية عامة جديدة. وهذا ما عبّر عنه الشاعر أدونيس متأخراً في بيروت السبعينات، حينما كتب في مجلته "مواقف" في عشايا الحروب الأهلية الملبننة: "إذا رأيتَ على مدخل الجامعة نجمة/ خذ بيديها. إذا رأيتِ كوكباً على مدخل الجامعة/ عانقيه. نهدم العائلة/ نبني الصادقة/ ويصير الزمن لخطونا شرفات".

ترتدي فتيات الصورة الستينية فساتين أو تنانير حسيرة عن سيقانهن إلى ما فوق ركبهن بسنتيمترات قليلة. إلى جانبهن شاب واحد، جامعي مثلهن، ويحادث إحداهن في الملعب الجامعي الفسيح الخالي إلا منهن ومن الشاب. كأن الخلاء والفراغ خلفهن وأمامهن يكنّي عن فرادتهن أو فرديتهن واحتفائهن بها والتوكيد عليها في مشهد يشي بملامح الانتظام العمراني والتوازن الديموغرافي، حينما كان في القاهرة وجامعتها متسع لطموح الفئات الاجتماعية الوسطى في التعليم والسكن وإنشاء حياة مدينية مستقرة واعدة.

فالصورة الفوتوغرافية الموصوفة تعود إلى الحقبة الأولى من الزمن الناصري، قبل هبوب رياحه الشعبوية الكاسحة وتأميماته الإشتراكية التي أفقدت مصر جالياتها المدينية "الأجنبية" الواسعة، وحاصرت الطبقة الوسطى المدينية المحلية غير الريفية. هذا فيما بدأت تكتسح العمران المديني القاهري موجاتٌ من الريفيين في خضمّ الانفجار الديموغرافي المتلاحق بين الستينات والثمانينات، والمستمر حتى اليوم. بعد الكارثة الناصرية الناجمة عن الحرب والهزيمة في حزيران 1967، والكارثة الثانية الساداتية بعد حرب 6 أكتوبر 1973: إطلاق "الرئيس المؤمن"، أي السادات نفسه، ما سُمِّي "الانفتاح الاقتصادي"، إلى جانب إطلاقه أيضا أسلمة المجتمع. ولتحقيق هذه الأسلمة كركيزة جديدة لحكمه ونظامه، مع ما سُمّي "ملحمة عبور" قناة السويس، منح السادات جماعة "الاخوان المسلمين" حرية النشاط الدعوي والإعلامي الإسلاميين والعمل الاجتماعي الرعوي. وهذا لتعويض تخلي دولة الرعاية الاشتراكية في العهد الناصري عن إعالة الطبقات الشعبية الواسعة الفقيرة والفئات الاجتماعية الوسطى الجديدة. فنشر "الاخوان المسلمون" مستوصفاتهم وجمعياتهم الأهلية الخيرية والرعوية للإعالة والمساعدات الطبية والغذائية والمدرسية، إلى جانب نشاطهم الدعوي الإسلامي في أحياء المدن والأرياف المصرية.

الانفتاح الاقتصادي والأسلمة والنشاط "الإخواني"، كلها عوامل أدت الى تسريع وتائر ترييف المدينة وبروز طبقة اجتماعية طفيلية اقتصادياً وفي قيمها وثقافتها. غلّفت هذه الطبقةُ طفيليتَها وإثراءَها السريع والسهل ببراقع صفيقة من تديّن إسلامي. وهو التدين الذي بيّن اكتساحُه السريع والسهل الحياةَ اليومية ودوائرَ العلنية العامة، هشاشة قيم الحداثة والتمدين المعاصرة في المجتمع المصري الذي سارعت معظم فئاته وطبقاته الى التبرقع بكيتش إسلامي في المظهر والقيافة والمسلك واللغة، وفي تعاملات الحياة اليومية وشعائرها.

اجتاح هذا الكيتش الإسلامي، الشارعَ والحياة البيتية في مصر، مثل وباء، وصولاً الى المدارس والجامعات والطلبة والمدرّسين. وهذا ما تظهره الصورة الثانية لمدخل جامعة القاهرة في العام 2015، بعد 55 سنة من التقاط الصورة الأولى الموصوفة لفتيات الجامعة نفسها في العام 1960.

الصورة الثانية بالألوان. وهي لرتل من الحريم يدخل متزاحماً من بوابة جامعة القاهرة في زي شرعي إسلامي موحَّد يغلب على ألوانه أبيض أكفان الموت وأسود سرادق العزاء. وما بين هذين اللونين اللذين يوحدهما الموت يظهر الرمادي والرصاصي اللذان يخلطان بياض الأكفان بسواد العزاء في المآتم. كأنما البوابة التي يدخل منها رتل الحريم ويتجاوزها في صفين طويلين ليست لجامعة، بل لمصلّى أو مسجد للحريم أو سرادق للعزاء أو مقبرة، لا فرق.

ليس من ذَكَرٍ واحدٍ بين رتل الحريم هذا. معاذ الله أن يخالط الحريمَ ذَكرٌ سوى المحْرَم. وقد يكون للذكور حضور في دور "شرطة الأخلاق" الإسلامية أو "الحسبة" في ملاعب الجامعة التي سيطر عليها "الاخوان المسلمون" بدءاً من الثمانينات، وناضلوا مستميتين للفصل بين الجنسين. وغياب الذكور في الصورة الحريمية على مدخل الجامعة ينبئ بأن الطلبة الذكور خُصِّص لهم مدخلٌ آخر مستقل للدخول اليها.

في استنطاق هاتين الصورتين والمقارنة بينهما لا بد من التساؤلات الآتية: أي صورة عن أنفسهن وأجسامهن وعلاقاتهن ورغباتهن، وعن عالمهن الاجتماعي والثقافي والعاطفي والأخلاقي، كانت ماثلة في مخيلة الفتيات الجامعيات الخمس الحاسرات في صورتهن الفوتوغرافية التي تعود الى سنة 1960، حين كنَّ في مطلع العشرين من أعمارهن؟

وأي مصير يمكن اليوم تخيّله لفتيات الصورة هذه، بعد مضيّ 56 سنة على التقاط صورتهن؟ هل لا زلن ترتدين أزياء حاسرة تناسب شيخوختهن بعدما بلغن اليوم أواسط السبعين من أعمارهن؟ هذا إذا لم توافيهن أو بعضهن المنيّة في مصر التي تتدنى فيها معدلات الأعمار، في حال بقائهن مقيمات في الديار المصرية التي تقلُّ أصلا هجرات النساء فيها إلى الخارج. أما إذا أمدّ الله أو القدر في أعمارهن، وصرن اليوم في أعمار جدّات أو أمهات على الأقل، لرتل الحريم الشرعي الإسلامي المصطفّ على مدخل الجامعة في الصورة الثانية الملونة، فهل استطعن منذ العشرين من أعمارهن الإقامةَ على عاداتهن في ارتداء ثيابٍ حاسرة؟ ألم تأخذهن عاصفة "الجهل المقدس" الذي يصفه اوليفيه روا في كتاب له بهذا العنوان، وهبّت عاصفته عاتية على الديار المصرية والعربية والإسلامية، متزامنة مع العولمة منذ ثمانينات القرن العشرين؟ إنها العاصفة التي أخذت في أحابيلها فئات واسعة من الرجال والنساء والفتيان والفتيات في هذه الديار، وحملتهم على تأسلم غير شخصي ولا فردي، ويخلو تعصُّبه الاجتماعي والسياسي من الثقافة الدينية الفعلية التقليدية. انها "ثقافة" دينية هجينة ومحدثة، لكنها بلا دين فعليّ وشخصي.

أخيراً يبقى سؤال مصدره الصورة الفوتوغرافية الأولى للفتيات الجامعيات الخمس: ألا يبدو مشهدهن في انطلاقهن الفرح والشغوف بأنفسهن وأزيائهن الحاسرة، مشهداً في فيلم من أفلام سينما الستينات المصرية التي كانت تصوّر النساء على مثال هو صنيعة نجمات السينما المصرية نفسها التي تعوّدت على استبعاد الوقائع المجتمعية المتنازعة، وتصوير العالم تصويراً ديكورياً أقرب الى الكيتش المحدث في الاستديوهات، كما في الشوارع والنوادي والبيوت؟ كأن فتيات الجامعة في صورتهن الستينية يقلّدن في مشيتهن الفرحة وقيافتهن، وتنتصب في مخيلتهن، صورة ذلك الكيتش الماثل في الشخصيات النجومية السينمائية لكل من فاتن حمامة، وشادية، وسعاد حسني، ومريم فخر الدين وسواهن. أو كأنهن طالعات من أغنية لعبد الحليم حافظ أو شادية أو نجاة الصغيرة، وليس في مشهدهن ما ينبئ أنهن مقبلات على خوض تجارب العيش الشخصيّة إلا كما تصوّرها الأفلام والأغاني. أي مثل "الهوى دون أهله" في أغاني كوكب شرقنا، أم كلثوم، في كتاب لحازم صاغية عنها في هذا العنوان. 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها