الأربعاء 2016/12/07

آخر تحديث: 12:24 (بيروت)

لماذا أحب فيروز؟

الأربعاء 2016/12/07
لماذا أحب فيروز؟
increase حجم الخط decrease
باق منها دقيقة ربما. "حبيتك تنسيت النوم". أبقى في سيارتي المركونة كي أنهيها. باق دقيقة أعود بعدها إلى حياتي. لا بأس. الآن أسمعها. ليس من عادتي مقاطعتها. ثم أنها تمنحني دقيقة رقيقة من صوتها لا أنزلق خلالها إلى حنين ولا أغيب في ذكريات. أسمعها. فقط. كطفل إذا سئل عما يفعل قال "ألعب".


أسمع فيروز. لا أخصص لها وقتاً بعينه، صباحاً مثلاً، أو مساء. لا أسمعها طوال الوقت. كأنها تخطر على بالي، فأبحث عن أغنية بعينها، وأسمعها.

لا تكلف بين صديقين. وصوت فيروز صديقة عتيقة كلما احتجت إليها وجدتها. أسمعها، وهي، في المقابل تسمعني. تحضنني حين أكون كئيبا، وتبكي معي حين أحزن، وترقص معي في فرحنا. تأخذ عني الحنين حين يصير ثقيلا، أو تغرقني فيه حين أطلبه. تجعل القهوة ألذ، والنبيذ أشهى. تحاول معي حين أكتب. تضع يدها في يدي حين يدهمني ذاك الشعور الغامض الكئيب بأنني وحيد. نجلس ونحكي. مذ التقينا ونحن كذلك. لدينا ما نقوله لبعضنا. وصمتنا ليس عبئا. نسكت أحيانا ونسمع فيروز. هي وأنا.

صوتها صديقة طيبة، أقول وأفكر في معنى السؤال عن سبب لأن أحبها. لماذا أحب فيروز؟ لا لسبب. أسأل لأحتفل بهذا الحب. إنه ما اعطتني إياه. ما زرعته في قلبي ونما معي. هذا الأثر الذي لا أريد ان أفهمه كلما سمعتها. الأثر الذي أعلم أنه لا يُكتب. لا يمكن تشبيهه بشيء، لكن يمكن تشبيه الأشياء به. نعاس. سهرة على شرفة مع أصدقاء. وجه طفل. عزف مرتجل. مجنون يمشي متمتما في شارع. سطر في رواية. مطر في غير موسمه. سماء غائمة. طير يفتح جناحيه وينساب في دوائر. مقعد خشبي عتيق صنع بودٍ، يرتاح في حديقة. 

صوتها سحرٌ في حياة ينضب السحر فيها. يبطئ الوقت، يزيحه عن خطه المستقيم بين نقطتين. يفلته على هواه، فيلهو عن واجبه وينسى ان يمر. صوتها يزيد على الأمكنة والذكريات وحكايات الحب ووجوه الناس تلك المسحة التي حين نراها نعلم أننا نائمون، وأننا نحلم. نعلم أننا في مؤقت زائل بعد لحظة، ومع ذلك نفرح بلحظتنا. نغرق فيها ونغرقها فينا. صوتها تلك اللمسة الخارجة من قصص الأطفال، تلك التي تنثر نجوما وأقواس قزح وابتسامات.
صوتها الوهمي، الآتي من حيث تأتي الأحلام، ملاذ من القبح ومن الابتذال ومن العادي في الحياة. ملاذ مما يحزننا في أنفسنا وفي الناس وفي الزمن. ملاذ من الصدأ الذي يتمدد في العالم. خلاص مؤقت من الخوف، لكن يمكن دائما الهروب إليه والاختباء فيه.

لماذا أحب فيروز؟ السؤال هو لماذا أحبها كل هذا الحب؟ هي أنانيتي لا شك. لقد أعطتني كثيرا، وستظل تعطيني. سارت بي في هذه الحياة. شكلتني. لا أعرف كيف كنت لأكون من دونها، لكنني أحزن له، هذا الذي كنت سأصيره من دون أن يسمعها. كنت سأخسر عمرا ثانيا موازيا لعمري، أتسلل إليه دائما لأقول إنني بخير. فيروز أعطتني عمرين، لذا، ربما، أحبها.
أصل إلى هذا السطر وما زلت قاصرا عن التعبير عن حبي لها. ليس بيدي. هو الحب، هذا الذي تقول هي عنه إنه كبر البحر وبعد السما. وهو هكذا.

في كل مرة أكتب عنها أعرف كم أنا ضعيف أمامها وكم أنا فرح بضعفي. كنت كلما غنت، في وسط بيروت أو في بيت الدين، أو في كنيسة، مشيت إليها كالماشي في نومه. بغبطة وخوف طفل لأول مرة على مرجوحة. كنت أحفز كل حواسي كي أقبض على اللحظة التي يلف فيها صوتها هواء المكان وقمره وناسه ودموعهم وصراخهم. كان صوتها يلفهم بما يشبه ورق الهدايا، وكانت تعطيني الهدية وتغادر، ويظل السحر عالقا في الهواء. هذه هداياها.

لماذا أحب فيروز؟ لأنني كيفما التفت حولي سأجد علبا صغيرة تركتها لي ملفوفة بصوتها، افتحها وألهو بها. هكذا سأظل عمري كله. لماذا أحبها؟ لا معنى للسؤال. هو ما أسأله لنفسي كي أفرح بالكتابة عنها ولها. فرح يصل إلى نقطته الآن بينما صوتها يكمل جريه في قلبي، نهر نبيذ.. أنا حبيتك حبيتك.. أنا حبيتك حبيتك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها