الأحد 2016/12/25

آخر تحديث: 13:26 (بيروت)

لكن ما الذي عرّاه معرض يوسف عبدلكي؟

الأحد 2016/12/25
لكن ما الذي عرّاه معرض يوسف عبدلكي؟
يحق لبزّي السؤال عن لوحة "أم الشهيد" التي زيّنت كتيّب معرض عبدلكي مؤخراً في ميونيخ، وغابت عن معرض دمشق
increase حجم الخط decrease
القليل من الوقت، ويهدأ غبار المعركة التي أشعلها مقال الشاعر يوسف بزي المنشور في "المدن"، حول معرض الفنان التشكيلي السوري "المعارض" يوسف عبدلكي في دمشق. ليجد المهتمون بشأن سوريا وشعبها الوقت للمزيد من التفكير في جوانب لافتة جاء على ذكرها مقال يبدو في ظاهره مجرد مواكبة لمعرض جديد لفنان تشكيلي، كما يريد البعض أن يصور الأمر.


أثار المقال ردود أفعال مفاجئة لكثيرين راقبوا المشهد السوري، وظنوا أن التكفير والداعشية والاعتقال وتكميم الأفواه والقصف العشوائي هي أنماط سلوك تخصص بها المتطرفون ونظام الأسد وحسب. وظنوا أيضاً، مع هذا، أن مثقفي "المعارضة" السورية بمنأى عن تلك الممارسات البدائية. لكن ما رأيناه في "سقيفة المعرض" الجدلية، هو صراع جديد متناسل من صراعات لا نهاية لها، لا تتعلم أطرافها شيئاً، مهما تراكمت تجاربها المريرة.

حين قرأتُ مقال بزي، ربما في وقت مبكر من نشره، عرفت أنه لا يستهدف الشخصي في حالة عبدلكي. وكانت واضحة الأسئلة الكبيرة المتوارية خلف الأسئلة الثقافية التي بدت مباشرة بسيطة. كتبتُ في تعليقي أن كثيرين سينبَرون للدفاع عن عبدلكي، وأن آخرين مثلهم سيسارعون إلى مهاجمته، وهذا ما كان.

لكن ما الذي يجعل من موقع داعم لانتفاضة الشعب السوري، مثل موقع "المدن"، بين يوم وليلة، منبراً مفتوحاً لمقال يهاجم ويطعن في أيقونة ثقافية فنية سياسية نضالية سورية مثل يوسف عبدلكي؟ وكيف تتحول في الوقت ذاته، صحيفة "الأخبار" اللبنانية، المدعومة من "حزب الله" وإيران، ومعها جريدة "السفير" المؤيدة للأسد حتى وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، إلى منبر للدفاع عن معارض بِقامة عبدلكي؟ وما الذي يجعل كاتباً لم يتوقف يوماً واحداً عن الانخراط التام والتأييد العملي الموضوعي والذاتي أولاً وقبل كل شيء، لثورة ضد نظام الأسد، بدأت قبل ثورة العام 2011 بكثير.. ما الذي يجعل منه فجأة كاتباً "رخيصاً" يطعن ويلفق ويفبرك ويقبض مقابل الإساءة لعبدلكي ومعرضه، كما قيل؟ أو في أحسن الأحوال، قالوا إنه يمارس وصاية على فنان يريد أن يعيش من فنه، بحسب دفاع البعض.. أو أنه ينتقد رمزاً مقدساً لا غبار عليه، ولا يمكن لأحد أن ينتقده، كما دافع آخرون..

وجدتُ نفسي معنياً بهذا كله. ليس فقط لأن يوسف عبدلكي بالنسبة إليّ، كسوري، فنان أيقوني، وصديق وقريب بصورة أو بأخرى. وليس لأني كتبتُ عنه مرات ومرات، وواكبت تجربته بيدي رسماً وكتابة فقط، بل لأنه لم يكد يجف صلصال شخصيته التي تتحرك في صفحات روايتي "عين الشرق" كواحد من أبطالها الرئيسيين، الذين تحاورهم الرواية وتفسح المجال لقارئها أن يتتبع حتى جيناتهم المعرفية عبر أجيال ثلاثة، قدوماً من الجنوب التركي في قلعة مرا. هناك، كان حنا يعقوب عبدلكي، يناضل ضد العثمانيين ويحاول حماية المهجّرين اليونانيين في ماردين، قبل أن تضطره ظروفه للهجرة إلى عامودا السورية، لتأسيس أول مدرسة سريانية في سوريا، وليصبح رمزاً من رموز وحدة المدينة الوطنية، حين يتخذ مواقف مشرفة من طوشة عامودا بين المسلمين الأكراد والمسيحيين. ومن ثم يتفرغ لنقد الفكر الديني وإصلاح الكنيسة. وصولاً إلى لحظة الحفيد يوسف في مرسمه في ساروجة، وهو الذي يرى أن هناك موجات أربع للثورة قامت في الشرق، بدءاً من القرن التاسع عشر، ثم موجة حركات التحرر الوطنية، ثم ثورات الضباط، ثم ربيع العرب، وكان الهدف منها أن تحكم الجماهير نفسها. وأن تلك الموجات مستمرة الآن.

إلى جوار جانب من سيرة عبدلكي، كانت الحوارات بين اليهودي الدمشقي "إخاد"، والراوي، تأخذ شكلاً مناكفاً، حين يصر الأول على فتح حديث عن "رابطة العمل الشيوعي" (حزب العمل لاحقاً) الحاضن السياسي والفكري ليوسف، والتي بسببها سيتم اعتقاله، ثم خروجه إلى المنفى الفرنسي، ربع قرن من الزمان. ثم عودته في العام 2005، وتمسكه بالبقاء في سوريا، مغادراً وعائداً كلما شاء ومتى شاء. وحتى اعتقاله الأخير قبل عامين، والإفراج عنه بعد حملة مناشدة وضغط كبيرة قام بها سوريون وغير سوريين، ربما كانت غالبيتهم من المعترضين على معرضه الدمشقي هذه الأيام، فسببت تلك الحملة تدخلاً "دولياً"، أدى أخيراً إلى إخلاء سبيله. وما لبث أن عاد إلى مرسمه ونظام حياته الذي اختاره بين باريس ودمشق.

قضبان الحزب
لماذا لا يمكن الحديث عن يوسف عبدلكي من دون الإشارة، بانتباه، إلى "حزب العمل"؟ لأن شخصاً بمكانة عبدلكي، بات علامة من علامات النضال العام في سوريا، بمختلف اتجاهاته، لكنه في النهاية يبقى مقيداً بقواعد اللعبة التي تفرضها الإيديولوجيا التي يؤمن بها، خصوصاً أنه لم يبتعد عنها تماماً، بل عاد إليها قيادياً يمارس دوره في توجيهها واتخاذ قراراتها الصعبة الآن وليس في الماضي.


وربما وأنت تقرأ هذه السطور الآن، يكون يوسف عبدلكي يحضر اجتماعاً حزبياً لحزب العمل مع رفاقه، أو اجتماعاً سياسياً آخر لهيئة التنسيق التي يشغل منصباً قيادياً فيها أيضاً، إلى جوار حسن عبدالعظيم، في تركيبة يشرحها موقع الهيئة الإلكتروني بالتالي: "تتشكل هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي في الداخل وفي المهجر من عديد من الشخصيات المستقلة ذات التاريخ النضالي المشــرف وكثير من الهيئات والمنظمات وعدد لا بأس به من الأحزاب السياسية السورية أهمها: حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي، حزب العمل الشيوعي السوري، حزب البعث الديموقراطي العربي الاشتراكي، الحزب الديموقراطي الكردي السوري، حزب الاتحاد الديموقراطي، الحزب الديموقراطي الاجتماعي، الحزب الشيوعي – المكتب السياسي، حركة الاشتراكيين العرب، حزب الاتحاد السرياني، الجمعية الأهلية لمناهضة الصهيونية، حزب الاتحاد الكردي الديموقراطي (وقد ورد في بيان تأسيس الهيئة بهذا الوصف:حزب أوجلان في سوريا ـ صالح مسلم محمد) بعض تلك الأحزب والشخصيات انسحب لاحقاً نتيجة اعتراضه على سياسة الهيئة، وبعضها فصلته الهيئة مثل هيثم مناع وغيره".

طرح يوسف بزي في مقاله، أسئلة سياسية، لكن الإجابات التي ساقها من دافعوا عن يوسف عبدلكي، كانت فقط إجابات ثقافية، وهنا نشأ الخلل. لأن الاختباء خلف الساتر الثقافي، نقيض للعُريّ الذي يقول عبدلكي إنه يحتفل به في معرضه الأخير في دمشق. فتحولت قناعات أولئك المدافعين إلى عورات ستروها بأقوال من نوع "من حق الفنان أن يعرض وأن يفعل ما يشاء" أو "بدلاً من دعم أهل الداخل تريدون أن تضيقوا عليهم؟" أو "هذا باب رزق الفنان ولا حق لأحد بالتدخل فيه أو السؤال عنه" أو "ليخرس من رفعوا أصواتهم بانتقاد معرض يوسف عبدلكي الذي هو فوق الشبهات".. وهكذا.

لكن بزي كان ينتظر إجابات أخرى. فهو لم يقل إن عبدلكي فنان لا حق له بعرض ما يشاء ووقتما يشاء. لأن هذا من الأبجديات التي لا تناقش. ولم يقل إن عبدلكي مشكوك في أمره، بل على العكس تماماً، قال بالحرف "بالطبع، لا تشكيك في مبدئية يوسف عبدلكي كمُعارض قديم للنظام السوري، وللاستبداد عموماً، وفي عناده اليساري، وإصراره في معظم أعماله على تصوير أثار الظلم والتهميش والقمع، بلوحات طغى عليها باستمرار الرمادي والأسود وإيحاءات الغضب واليأس والاحتجاج. لا شك أيضاً أنه أحد رموز الثقافة السورية المستقلة عن الثقافة الرسمية البعثية. ولا شك في حق عبدلكي بالبقاء في بلده أو السفر منه ساعة يشاء. بل إن البقاء في بلده ليس تهمة، كما أن اختيار الهجرة والمنفى ليس عيباً".

الكاتب اللبناني، الذي لم تجمعني به سوى لقاءات قليلة، كانت آخرها جلسة طويلة حول طاولة على النيل في القاهرة، في خريف 2012، اقتصرت عليه وعليّ وثالثنا الراحل الكبير العلامة هاني فحص. كانت جلسة استعراض للأحوال الثقافية والسياسية معاً، وعمن يتوجب أن نحاول العمل معه في لبنان، من أجل ثورة الشعب السوري، وعمّن تمكن من التسلل إلى مشهد الثورة وهو أقرب إلى أجهزة المخابرات منها عبر تاريخ من الباطنية السياسية التي تقدّمه كمعارض بينما تخفي وجهه الحقيقي كمهرّج لدى الأجهزة الأمنية السورية ومراكز النفوذ فيها. وكانت أمثلتنا كثيرة ومتطابقة. كان رأي هاني فحص أن علينا أن ننظر إلى الأمام وبتسامح، بينما كان رأيي أن هذا التسامح المفرط سيضيع الحدود بين المبدئي والرخو، وهو ما وافق عليه بزي بحماس وغضب في كثير من الأحيان.

كان بزي قد تولى الإشراف، مع زملاء له، على ملحق "نوافذ" الثقافي في صحيفة "المستقبل"، لسنوات طويلة، قبل إغلاقه. وفي حين كانت "المستقبل" تفتح نيرانها على نظام الأسد، إثر اغتيال الحريري، ومعها جريدة "النهار" وقوى 14 آذار وكل الأحرار في لبنان، كان يوسف عبدلكي يقرر العودة إلى دمشق بعد منفاه الطويل. عودة يراها بزي اليوم، هدية مجانية لنظام القمع، وكنا نراها حينها، ضربة كبيرة لذلك النظام، وإهانة أخرى له، تضاف إلى إهانة انسحابه المذل من لبنان. فهو لم يعد قادراً على التحكم في ما يجري في دمشق.

رفاقي الذين في المعتقلات
ينقطع الزمن عند يوسف بزي، من العام 2005 إلى يومنا هذا، ويقفز إلى لحظة افتتاح معرض عبدلكي في دمشق. من دون أن ينتبه إلى أن تلك السنوات التي تزيد عن العشر، كان عبدلكي قد رفض فيها مراراً محاولات النظام استمالته إلى جانبه بأشكال مختلفة، منها عرضٌ شهدتُ عليه شخصياً، جاءه مباشرة من أستاذه الفنان غياث الأخرس، ليكون على رأس المركز السمعي والبصري الدولي الذي أشرف على تأسيسه الأخرس، عمّ أسماء الاسد، بتمويل من بشار الأسد ذاته. قال عبدلكي: "لا أستطيع أن أُقدم على شيء هكذا، ورفاقي في المعتقلات. موافق بشرط إخلاء سبيلهم" كان يعني برفاقه، جميع المعتقلين السياسيين في سوريا بلا استثناء.

من حق بزي أن يطرح الأسئلة. فمُعارض من وزن عبدلكي، عليه أن يفسّر كيف استطاع إقامة معرض في دمشق، رغماً عن النظام المخابراتي فيها. وإن كان ذلك بموافقة أجهزة الأمن، فما الذي اشترطته تلك الأجهزة على الفنان؟ وإن لم تكن قد اشترطت، فهل الرسالة إن النظام أصبح أكثر انفتاحاً اليوم وأكثر ديموقراطية؟

وليس نزيهاً المنطق الذي ترافع به من قالوا إن الكاتب في الداخل السوري من حقه أن يكتب والرسام من حقه أن يرسم، من دون أن يسأله أحد. نعم من حقه، لكن هل يستطيع الكاتب المعارض إقامة أمسية يقرأ فيها شعراً أو نصوصاً ضد الاستبداد في معقل الاستبداد؟ وبالمثل، المخرج السينمائي، بوسعه أن يكتب ما يشاء من الأفلام في دمشق، لكن هل سيتمكن من تصويرها؟ وإن فعل سراً، فهل سيتمكن من عرضها في "سينما سيتي" أو "سينما الشام" الخاصة أو "سينما الكندي" العمومية في دمشق؟

السؤال الأخطر الذي التف من حوله الجميع، كان حول شخصية "المعارض السوري". وإن كنت شخصياً لم أوافق مرة واحدة على هذا الوصف، لا سيما بعد العام 2011. فنظام مافيوي دموي مثل نظام الأسد، ليس نظاماً سياسياً، حتى تنشأ في مقابله معارضة سياسية تواجهه بالسياسة والصراع البرلماني وسواه. هو لا يسمح بهذا الشكل من مناقضته أصلاً. لكن هذه أيضاً نقطة خلافية بين السوريين أنفسهم.

وهنا مفصل من أهم مفاصل افتراق السوريين والتقائهم، يختبئ خلف حفلات الشتم والسباب، وربما الاقتتال الفعلي بالسلاح، مفصل آت من تاريخ العلاقة مع نظام الأسد الأب. ففي الوقت الذي اعتبر فيه معارض كبير، مثل رياض الترك، وآخرون معه، في نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته، أن هذا النظام غير قابل للإصلاح ولا التفاوض، كانت تتشكل جبهة موازية لجبهة حافظ الأسد الوطنية التي انضم إليها خالد بكداش وأمثاله. جبهة أخرى قادها الدكتور جمال الأتاسي، اعتبرت أن هذا النظام أمر واقع، وأنه لا سبيل للتعامل معه سوى بالصراع السياسي السلمي. أي حالة "التجمع الوطني الديموقراطي"-الأب المباشر لهيئة التنسيق الوطنية اليوم.

في ذلك الوقت رأت رابطة العمل الشيوعي، الصراع ما بين نظام الأسد والشعب السوري، صراعاً ما بين الاستبداد والظلام، بصورة ما.

يدور هذا الحوار حول يوسف عبدلكي في "عين الشرق"، التي رسم وصمم غلافها عبدلكي ذاته، بصداقة ومحبة، وسأبقى ممتناً له طيلة الوقت، لكن هذا لا يمنعني من مناقضته ومخالفته الرأي وإحداثيات التموضع من نظام الأسد:

ـ نعم. مثلما كان تيار رياض الترك الشيوعي يُتهم بأنه تيار إسلامي عروبي. تريد أن نتحدث عن يوسف أم عن الرابطة؟

ـ عن الرابطة.

ـ حسناً لا يمكنني أن أنسى البيان الذي أصدرته الرابطة في بداية الثمانينات، حين كان الصدام قد بدأ بين الشعب ونظام حافظ الأسد، نقله عباس كامل العضو السابق في الرابطة الذي بقي معتقلاً أكثر من 14 عاماً في سجون الأسد. قال كامل إن الرابطة رأت في خضم أحداث الثمانينات أن "البورجوازية التقليدية ممثلة بالحلف الرجعي الأسود المشكل داخل سوريا (من الإخوان المسلمين وبعث العراق)، والمدعومة من محيط عربي وعالمي، تجد فرصتها في الانقضاض على السلطة، وكل من الشريحتين يقاتل الآخر بجزء من جسد الشعب السوري، والمفروض العمل من القوى الوطنية على خلق تيار ثالث يخلّص الشعب من بين أرجل المتقاتلين، لكن الرابطة ستراقب الصراع وتطوره، علماً بأنها ترى أن الحلف الرجعي الأسود أخطر من السلطة القائمة، ومَن يتوهم أنه من خلال الوصول إلى السلطة سيعطي بعض الحريات مخطئ جداً لأنه قادم من خلال أزمة تؤهله أن يحكم بشكل فاشي وعلى أرضية طائفية، وقد راقبت الصراع وقالت إبان ذروة الأزمة أن الصراع وصل مرحلة كسر العظم، وأنه إذا دخل عصام العطار (كورنيلوف) دمشق، فإنه يجب نقل البندقية من كتف إلى كتف والقتال إلى جانب كيرنسكي (حافظ الأسد)".

لكن الرابطة تغيرت مع الوقت، ولم يعد هذا الموقف هو موقفها الوحيد. لكن كثيرين من أعضائها ظلوا متمسكين به فكرياً، ولا يسمحون بالجدل حوله أو حتى مراجعته، ومنهم فاتح جاموس الذي اضطرت الرابطة لاحقاً إلى فصله نتيجة مواقفه الفاحشة. جاموس الذي اعتاد على وصف المعارضة "الخارجية" بالعمالة، واتهمها بالتبعية لأميركا والخليج وإسرائيل قبل أن ينضم إلى تيار قدري جميل المعارض.

تحرير حلب أم احتلالها
ليس الأمر كما يبدو عليه إذاً. فالموقف الملتبس مما يدور على الأرض بين الأسد والسوريين، من وجهة بعض أطياف المعارضة، ليس موقفا انتهازياً سياسياً، وليس موالاة للنظام. التباسه ليس قائماً على حق فنان بممارسة حريته في عرض ما يشاء وقتما يشاء، أو حرمانه من هذا الحق.


إن موقفاً كهذا، إنما هو موقف قائم على نهج فكري، ينظر إلى الشعب السوري، من نافذة استعلائية نخبوية استشراقية، تفترض سلفاً أن القاعدة العريضة للسوريين، ستكون بالضرورة متطرفة. وأنها ستقود البلاد إلى الظلام، على يد كورنيلوف ما. وليس بغير دلالة استعمال اسم كورنيلوف الذي كان من أبرز تصريحاته "إرهاب أكثر يعني نصراً أعظم". وبالتالي لا مفر من القبول، ولو مؤقتاً، بكيرنيسكي (حافظ الأسد واليوم بشار الأسد).

وعند هذا القطع الحاد، يفترق الثوار السوريون، بين مَن ينظر إلى ما يحدث في سوريا على أنه هياج شعبي بربري، قد يقود إلى حكم الإسلاميين، وبين مَن لا يرى هذا، ويعتبر أن من الطبيعي أن نرى ظواهر التطرف وغيرها في الطريق إلى الدولة الديموقراطية القادمة، لا سيما أن غالبية تلك الظواهر المتطرفة تم إثبات تصنيعها في مصانع أجهزة المخابرات السورية ذاتها.

وهنا أيضاً يحق للبناني يؤيد ثورة الشعب السوري، ويقف في وجه أشد أعداء تلك الثورة شراسة، "حزب الله" الشيعي الإيراني المتطرف، أن يسأل: ترى كيف ينظر عبدلكي ورفاقه الذين يحتفلون بافتتاح معرض فني في دمشق، إلى العمليات العسكرية التي يقوم بها الأسد في حلب هذه الأيام؟ هل يعتبرونها احتلالاً أم تحريراً؟ هل يعتبرونها تدميراً لحلب أم تخليصاً لها من الظلاميين وبسطاً لسلطة الدولة المركزية التي لا يجدون غضاضة في الإقامة في عاصمتها التي تتحكم بها أجهزة الأمن؟

ما هي الرسالة إذاً؟ يستنتج بزي "هي رسالة فحواها أن (الصواب) هو في إلقاء السلاح والاستسلام والقبول بالسقف الذي يضعه نظام الأسد لأي اعتراض: كُن معارضاً مبدئياً لكن تخلّ عن ثورتك. هذه بالضبط الفحوى الخفية لتحول لوحة عبدلكي من وجه (أم الشهيد) إلى (إيروتيكية) العري الهانئة.. الخالية من (السياسة)".

من حق بزي أن يسأل هنا، عن لوحة "أم الشهيد" التي زيّنت غلاف الكتيب المرافق لمعرض يوسف عبدلكي قبل شهر ونيف من الآن في "غاليري تانيت" في ميونيخ الألمانية، وغابت عن معرضه في "غاليري كامل" في دمشق السورية.

لكن كيف يمكن أن يرد المدافعون عن معرض عبدلكي في دمشق، على هذا السؤال؟ هل بالقول لمن يطرحه: إخرس؟ هل بترداد ما قالته شخصيات رخوة كتبت "ليتها لم تكن" عن ثورة الشعب السوري، معبّرة عن ندمها على تأييد تلك الثورة؟ وهذا النمط الأخير وجد في الجدل الذي أثاره مقال بزي عن معرض عبدلكي، فرصة ليرفع عقيرته بالندب والشكوى من "معارضهم، ومهرجاناتهم، وندواتهم في الخارج". ويقصد بالطبع المنفيين من معارضي الأسد، أو الذي فضلوا الفرار من قبضة الأسد لمواجهته بعيداً من معتقلاته وسجونه ومقابره الجماعية. وكأنه يحسدهم على منفاهم، ويزعجه نشاطهم الثقافي والفني الذي يبشر بالحرية في ساحات العالم، وينادي بالخلاص من وحشية الأسد.

والأكثر من ذلك أن بعض المُعترضين على مقال بزي، لم يترددوا في القول إن "الفارس لا يترجل ولا يترك الميدان" في تعبير عن فروسية مفضوحة، يمثلها التجول في العالم وتقبّل الدعوات من المنظمات الثقافية التي تعاملت مع هؤلاء على أنهم "مضطهدون" من نظام الأسد، تسمع منهم، وتموّل كتبهم وأعمالهم، وتتعاطف معهم، ليعودوا في طائرة اليوم التالي إلى دمشق إلى "الميدان". ولا نعرف ما الذي يقولونه لفروع المخابرات هناك. إذ لا يوجد سوى احتمالين: إما أن المخابرات تتفق معهم على تلك الفروسية، أو أنها عاجزة عن السيطرة عليهم، وهذا يعني أن الأسد قد تم نزع مخالبه، وأننا يمكن أن نعود غداً جميعنا إلى دمشق. لكن هل هذا صحيح حقاً؟ وماذا عن ربع مليون معتقل موثق تحتجزهم أجهزة المخابرات؟ وماذا عن الرفيق الدكتور عبدالعزيز الخير، رفيق عبدلكي في حزب العمل وقيادة هيئة التنسيق؟ أليس معتقلاً حتى هذه اللحظة في سجون الأسد؟ ألا يحق لنا أن نسمع شيئاً عنه أثناء الاحتفال بافتتاح معرض عبدلكي في حوار يدور بين ضيفه الممثل بسام كوسا، الذي قال قبل فترة قصيرة في حوار مسجّل، إنه يجب عليه وضع البوط العسكري على رأسه إكراماً لدور الجيش السوري في تحرير الأراضي السورية من الإرهابيين والعصابات المسلحة، وبين الروس الذي امتلأت بهم قاعة المعرض التي تنتمي للمبنى ذاته الخاصة بسفارة روسيا البيضاء؟

أخيراً، إن القرار الذي اتخذه يوسف عبدلكي بالبقاء في دمشق، يجعله يدرك سلفاً أنه يحوّل نفسه بموجبه إلى أمثولة، تتلقى الإعجاب، مثلما تتلقى النقد، وأنه ربما يضحي، كمسيح شيوعي جديد، بالكثير من نصيبه الشخصي، مقابل تعبيره عن قناعاته الفكرية ونظرته إلى ما يدور في بلاده.

وبدلاً من أن نسمع من يوسف عبدلكي، الذي نحب من جديد، تلك الإجابة التي لا أنساها "لا أستطيع أن أقدم على شيء هكذا، ورفاقي في المعتقلات"، نجد العُريّ في لوحاته يذكّر السوريين بفنان من نوع آخر، لم يتردد في التعاطي مع العُريّ كما طاب له، إنه بشارالأسد ذاته، الذي قام بتعرية المعتقلين وقتلهم بالتجويع والتذويب والتعذيب، كما تسرّب إلى العالم كله في عشرات الآلاف من الصور على يد "قيصر" وغيره، من معتقلات الأسد. عُريٌ لا تخطئه العين.

بالحوار ما بين السوريين أنفسهم تتغير الأفكار وتتطور. وليس بتبادل الاتهامات والشتائم والمبادرة إلى رد أي تساؤل باتهام من يطرحه بالتخوين، كما كان يحدث حين نناقش طائفية نظام الأسد، فيتهمنا نحن بالطائفية. ولهذا يجب القول: شكراً لـ"المدن" وشكراً ليوسف.. وليختر القارئ الكريم أي "اليوسفين" يشاء، فلن يكون مخطئاً في كلتا الحالتين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها