في
الرسائل المتبادلة بين إدوارد سعيد وصادق جلال العظم في العام 1980، إثر إستلام الأول، وبوصفه رئيس تحرير مجلة "الدراسات العربية"، لمقالة الثاني عن كتابه "الإستشراق"، نوع من التشنج بين المثقفَين، وهو تشنج ينم عن إرتطام المنقود بناقده، وتأرجحه في التعامل معه بين تأديبه بالتجبر، الذي يكاد يفقد عقاله، والقبول به على مضضٍ، من السهل تعقبه في إثر بيانه. أما الناقد، فينطلق من كونه لم يتوقع رد فعل منقوده، جامعاً بين الأسف عليه وتصويب كلامه، بالإضافة إلى التصدي له بالشرح والإصرار، قبل التشبث بنصِ نقده، وشبه إعلانه بأن المس به بمثابة تجاوز لـ"خط أحمر".
تبدأ رسالة سعيد الأولى إلى العظم بشكره المقرون باعتباره أن التحليل في مقالة "الإستشراق والإستشراق معكوساً" مشغول "بعناية فائقة"، و"يقدم وثيقة مقنعة ومثيرة للإعجاب". وهذا، ما يتبعه باقتراح نشرها بعد تعديل طولها. لكن، وفجأةً، تنقلب نبرة سعيد، ومن دون مقدمات، من ناشر دمث إلى منقود مضطرب من جراء تعرضه لـ"المراجعة". ولكي، يبعد التهديد عنه، يلجأ إلى أناه المتكبّرة، وإلى لغتها، التي ينزل فيها على سبيل التطبع بالتواضع. فقد "تلقى العديد من المراجعات" بخصوص كتابه، إلا أنه لم يولِ اهتمامه لأي منها، وها هو، حين يرد على "مراجعة العظم"، يقدم على "فعل غير مسبوق"، لا سيما أنه "صديق معجب" بناقده و"محب" له. سرعان ما يتحول هذا "التصادق الإعجابي" إلى تنابذ هجائي، تخلله إتهامات، غايتها التقريع، وغطاؤها "التعليم". فسعيد يريد أن يلقن العظم درساً، ولهذا، لا يتردد في تصويره، وعلى أساس مقارنته بشخصه كمهاجم "أصحاب الحجة الهزيلة"، وكقارئ سيء، ومُفسِّر ضال، ودوغمائي وحَرفي، ومُفكّر الخواء والهراء، ومن عَبَدة ماركس، الذي يشبه، بالنسبة إليه، الخميني، والمأخوذ بالسلوك الفضائحي للـ"الصحافة اللبنانية"، و"خادم طوعي وصامت للنظام السوري" الذي "يوظفك حالياً ويطلب" سكوته، والمصاب بـ"متلازمة إخصاء الذات" أيضاً.
وبعد هذا الكم من عبارات التوبيخ والتشهير، يعود سعيد من كاتب خالص إلى ناشر وكاتب، ولا وقت له للرد على ناقده بسبب "غرقه" في شؤونه الأخرى. ومع ذلك، "يتطلع بشغف إلى الرد عليه تفصيلاً". فما سبق كان مجرد "تثقيف" عاجل، وليس نقداً للنقد. وبالتالي، سعيد "الأناركي"، بحسب تعريفه لنفسه، وبكل تكتيك لا خلق فيه، بل اختلاق للتواضع المسكون بتقذيع غيره، يفتح نزاعاً مع العظم، وبالفعل نفسه، يخبره أن النزاع لم يبدأ بَعد، متهرباً من أي "هجوم معاكس" عليه.
على ان العظم لم يهجم على سعيد، بل قال له بما معناه: "اعرف ان مقالتي مزعجة، لكنني لم أتوقع انفجارك العنيف"، ويكمل ان "جرائمه"، أي نقده، لا تستحق كل هذه الحدة. ثم ان العظم ينبه سعيد الى مقارنته الأنانية، والى رغبته في إثبات تفوقه. وذلك، قبل ان يرجع الى صلب الفعل والرد عليه، اي الى الكتاب، داعياً مراسله الى الابتعاد عن أخذ "النقاش" الى التجريح الشخصي، ولاحقاً، يؤكد العظم على كونه يبغي نشر مقالته كاملةً، وبلا اي تعديل وإلا فليجرب إعادتها اليه.
على هذا المنوال، بقي الناقد على تهذيبه، وحدد نزاعه في إطار نصي محض، وطبعاً، لم يتحير في وصف سعيد، وبطريقة غير مباشرة، بانه "أستاذ متعكر المزاج". لم ينزلق العظم الى اضطراب هذا "الاستاذ"، وحافظ على اتزانه وتوازنه. غير ان سعيد رد مرة اخرى، وبذلك، استمر عالقاً في اضطرابه قائلاً لناقده: "انا لم أمس شخصك وكل ما قلته عنك انك خانع للنظام السوري"، وفِي الوقت عينه، عاود تقريع العظم، ووصفه بـ"الناقد الهادئ والأولمبي لأخطاء الآخرين"، وهذا، قبل ان يتمسك بتفوقه، ويكرر مقارنة نفسه بناقده ومجادليه. وهكذا تدور رسالته من التهرب الى المواظبة على التقريع والتراجع عنه والتشبث بالعنجهية، وصولاً الى تصوير ذاته كموضوع "مؤامرة" نقدية. وفِي نهاية رسالته، يبلغ سعيد خلاصته: "عندما اكتب... أكون في حالة معينة وأكتب لجمهور عمومي وليس لشخص"، اي ليس لناقده، كأنه يقول للعظم: "انت في الأساس ما علاقتك بكتابي؟ لماذا تتطفل عليه؟".
على طول هذه الرسائل، يظهر ان سعيد لا يدرك كيف يهاجم العظم فيخرجه عن هدوئه، بل انه، وفِي اثر هدوء الناقد، يزداد اضطراباً، ويمضي فيه اكثر، لدرجة انه لا يعود يميز بين كونه في نزاع ام لا، ولا يعود قادراً على الاختيار بين خوض النزاع ضد ناقده او انكاره. وكل هذا، في حين يبقي العظم ثابتاً في حدود نقده للكتاب. فالرسائل المتبادلة بين الاثنين، تشير الى ان الاول، اي سعيد، رأى في نقده استهدافاً لأناه، كأنها محرك كتابته. والثاني، اي العظم، ظل على اعتقاده بفصل الكتاب عن "أنا" كاتبه. وفِي كل الأحوال، مراسلات سعيد - العظم موضوع قراءة قريبة من التسلية أولاً، ومن الوقوف على شخوصهما ثانياً. وذلك، اكثر من كونها موضوعاً طارئاً. فهي علامة من علامات دوران النقد، بصيغته الأولية، في زمن طُويت صفحاته الى غير رجعة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها