ليس جديداً، ان يحيي السوريون صادق حلال العظم. فهذا جرى القيام به مرات ومرات، ليس من جانب السوريين فقط، بل من جانب آخرين من العرب والأجانب سواء في اطار التحية الفردية او المؤسساتية. فالرجل قيمة معرفية وعلمية كبيرة، وهو بين القامات السورية العالية، التي وقفت في وجه الاستبداد، وكان مفكراً وباحثاً ومعلماً في النضال الوطني والديمقراطي الذي شغل العالم على مدار عقود، وكان بين الأوائل الذين وقفوا في صف الثورة السورية في مواجهة نظام الاستبداد والقتل.
تحية صادق جلال العظم هذه المرة، وهي إعادة تأكيد واحياء للدور البارز والنشط الذي قام به الرجل على مدار عقود، طرح فيها وعالج من خلال مؤلفاته وكتاباته وابحاثه ومشاركاته في ندوات ومؤتمرات أهم قضايا وتحديات الواقع في ابعاده المحلية والإقليمية والعالمية من موقعه مفكراً وفيلسوفاً ريادياً، ولدوره في التعليم، وقد تتلمذ وتخرج على يديه عشرات آلاف الجامعيين في العديد من الجامعات في سوريا والبلدان العربية والأجنبية ممن لم يكتسبوا العلم والمعرفة منه فقط، بل اكتسبوا منه طرق تعامله الإنساني والديمقراطي، ونعلموا طريقه انخراطه في الفضاء العام وقضاياه، وهذه مزية ربما كانت الأهم فيما تركه الرجل في علاقته مع الآخرين ومع تلامذته بشكل خاص، لان العلم والمعرفة، يمكن ان تكتسب بطرق مختلفة، اما الأخيرة فلا تكتسب الا بالمعايشة والتجربة المباشرة.
كثيرون (وانا منهم) عرفوا صادق جلال العظم من خلال كتاباته، ولاسيما كتبه، والتي جاء بعضها بالمشاركة مع آخرين مختلفين ومتوافقين، ليعطي موضوعاتها مضامين ومحتويات تزيد من أهميتها، وكان الأبرز بين كتبه :دفاعا عن المادية والتاريخ وذهنية التحريم، وما بعد ذهنية التحريم ونقد الفكر الديني، واثر الثورة الفرنسية في فكر النهضة، والاسلام والنزعة الانسانية العلمانية، ثم الاصولية الإسلامية: تحديد نقدى للمشكلات والافكار والمداخل الى جانب كتب أخرى.
غير ان معرفتي الأهم مع الرجل، كانت مع بدء ربيع دمشق في السنوات الأولى من العقد الماضي، والتي توجت بعمل مشترك مع فعاليات ثقافية وسياسية واجتماعية، غلبها هم اخراج سوريا والسوريين من واقع نظام الاستبداد والتخلف الذي كرسه في حياة السوريين وبلدهم، وهو العمل الذي انتج وثيقتي ربيع دمشق: بيان 99 وبيان الالف، قبل ان يتمخض عن التجربة الأهم في لجان احياء المجتمع المدني، وقد لعبت دوراً ريادياً في السعي من اجل تغيير ديمقراطي ومتدرج وسلمي، خوفاً لما كان بين التقديرات في ذهاب نظام الأسد نحو العنف العاري بالصورة التي صارت اليها الكارثة السورية.
صادق جلال العظم، كان في صفوف كوكبة السوريين، التي وضعت ملامح المسار الوطني الديمقراطي وتحولانه في سوريا، ثم ذهبت الى الابعد من القول وصولاً الى الممارسة، ومن السر الى العلانية، ومن الانغلاق على الذات النخبوية وما حولها وصولاً الى الفضاء العام بمافيه من مواطنين لتعزيز احساسهم بالمواطنة والمساواة والإصرار على الذهاب نحو الحرية باعتبارها قيمة عليا للإنسان وموجهاً اساسياً في حياته.
في ذاكرة تلك الأيام كثير من تفاصيل وحيثيات عن الطموحات والاهداف، عن الموضوعات والنقاشات الجارية حولها، عن الأصدقاء وعن المعاناة، التي كانت تحيط بهم من نظام الاستبداد واجهزته، وكثير منها كان بيت صادق في المهاجرين احد مسارح مجرياتها... الراحلة فوز، والعزيزة ايمان كانتا بين شهود تلك المرحلة، التي اعطى فيها صادق كثير من وقته وجهده لاغنائها مع أعزاء آخرين من اجل سوريا حرة رغم ما أحاط بالسوريين وبلدهم من كوارث، لن تمنع مجيء التغيير الذين حلم به صادق جلال العظم وعمل على تحقيقه.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها