صادق جلال العظم هو، في الأساس، أستاذ للفلسفة. لكن، من بين جميع مؤلفاته لا نعثر، خلا أطروحته عن كانط، إلا على كتاب واحد في الفلسفة هو: "دراسات في الفلسفة المعاصرة" (1981)، وهو عبارة عن محاضرات أملاها على تلامذته في جامعة دمشق. ثم تمكن صديقنا قيصر عفيف من إرغامه على إجراء حوار مطوّل وممتاز معه، وأصدره في كتاب بعنوان: "دفاعًا عن المادية والتاريخ" (1987). غير أن إطلالة العظم الفكرية كانت مدوّية منذ البداية حين أصدر في بيروت سنة 1968 كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، ثم أتبعه بكتابه الذائع الصيت "نقد الفكر الديني" (1968)، ليصبح في أقل من عاميْن أحد أبرز المثقفين العرب في المشرق العربي، الأمر الذي جعل الملحق الثقافي لجريدة "النهار" يفرد له غلاف أحد أعداده وعليه عبارة "الدمشقي الكافر". ودائمًا، حين كان اسم صادق جلال العظم يطرق الأسماع، سرعان ما يخطر في البال ذلك المفكر الذي ظل حتى آخر يوم من حياته (مواليد دمشق 1934) يدافع عن "القضايا الخاسرة" مثل دفاعه عن إبليس، ودفاعه عن المادية الماركسية، ودفاعه عن الروائي البريطاني، الهندي الأصل، سلمان رشدي. ومهما يكن الأمر، فإن صادق العظم كان أحد ألمع الكُتّاب العرب الذين نجحوا في إثارة الدبابير من أعشاشها، وشرع في تحطيم الأيقونات السياسية العربية بعد هزيمة الخامس من حزيران /يونيو 1967 كالماركسية والناصرية والبعث والخرافة والدين. وفوق ذلك، اندرج صادق العظم وكتاباته في سياق الحداثة والتقدّم والنهضة ومقارعة الاستبداد والدفاع عن الحرية والديمقراطية والعلمانية. ولعلنا نجد في سيرته، وسيرة عائلته، البدايات التأسيسية التي جعلته مفكّرًا حرًّا وتقدّميًا وعلمانيًا في الوقت نفسه.
البدايات الأولى
عاش صادق جلال العظم في دمشق في منزل غابت عنه التنشئة التقليدية، وحضرت فيه عناصر النزوع إلى التجديد والعصرنة. فوالده جلال درس في اسطمبول، وأمضى ردحًا من أيامه في باريس، وانغمر في قيم الحركة الكمالية، وكان الوحيد من آل العظم الذي أيّد الوحدة السورية-المصرية لأنه رأى في جمال عبد االناصر ما يذكّره بمصطفى كمال (أتاتورك). أما والدته نزيهة العظم، فقد أصابت قدرًا مهمًا من الثقافة بمعايير بدايات القرن العشرين، فكانت تتقن التركية وبعض الفرنسية، وترسم، وتدافع عن السفور.
يروي صادق العظم أن منزل جدّه صادق العظم، وهو منزل كبير كان يقع في منطقة الجسر الأبيض في دمشق، حينما هُدم، لم يتأثر على الإطلاق، مع أن مثل هذا البيت يكون في العادة مخزنًا لذكريات الطفولة وشقاوتها. واكتشف لاحقًا، أن هذا الشعور بعدم المبالاة انتقل إليه من والدته التي عاشت في هذا البيت وكرهته، وكثيرًا ما رغبت في الانعتاق منه والخروج من التقليد إلى الحداثة، بل العبور من القهر والقمع والرقابة إلى رحاب التحرّر والانطلاق. وفي هذا البيت، لم يكن أحد يصلّي أو يصوم، لكن الجميع كان متديّنًا إلى حدّ ما. غير أن تديّن الارستقراطية الشامية ليس مثل تديّن الشعب. فالتديّن الارستقراطي يميل إلى أن يكون عمليًا ولصيقًا بالسلطة والقوة، وهو مرن بحسب المصالح وتقلّبات الأحوال. فالتقوى الزائدة لا نجدها عند الارستقراطية، بل ربما نجد لديها الميل إلى التسلّط، وهو نوع من تأكيد السيطرة؛ والدين يخدمها في هذا المجال. لكن في حقل المصالح، فالدين هو الذي يتكيّف معها وليس العكس. أما رجال الدين في شبكة هذه العلاقات فهم أدوات وصل بين الأقوياء وعامة الناس... لذلك يجب إكرامهم وإطعامهم ومراعاتهم وكسبهم، لكن من غير محبة خاصة لهم.
لعل هذا المناخ الذي عاش فيه صادق جلال العظم في دمشق نجّاه من الأزمات الفكرية والوجدانية التي عصفت بكثير من الشبان السوريين الذين نشأوا على التديّن وعلى التربية الإسلامية التقليدية، ثم انخرطوا، لاحقًا، في التيارات القومية العلمانية واليسارية، ومهّد له الطريق كي يتفتح وعيه السياسي بحرية؛ هذا الوعي الذي تأثر، في البداية، بأفكار أنطون سعادة، ثم بجمال عبد الناصر إبان حرب السويس سنة 1956. أما الماركسية فجاءت إليه كمحصلة طبيعية لقراءاته جون لوك وجون ستيوارت ميل وريكاردو وهيوم وجان جاك روسو، علاوة على الفكر الاجتماعي والسياسي الأوروبي.
تخرّج صادق العظم في جامعة "ييل"، وكانت أطروحته في الفلسفة عن كانط. لكن أستاذ الفلسفة لم يشتغل في الفلسفة في ما بعد، بل انهمك في السياسة وفي الفكر السياسي معًا. وبقيت صلته بالفلسفة مقصورة على التدريس، فضلًا عن كتابين فقط: "دفاعًا عن المادية والتاريخ" (1987)، و"دراسات في الفلسفة المعاصرة" (1981).
أطلّ صادق العظم على العالم العربي في سنة 1968 إطلالة مدوّية. ففي تلك السنة أصدر كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة" الذي كان سببًا من أسباب فصله من الجامعة الأميركية في بيروت لاحتوائه مواقف معادية للسياسة الأميركية في بلادنا العربية. وكان لشارل مالك شأن انتهازي في فصله من الجامعة لأن صادق العظم نشر مقالة في جريدة "النهار" (شباط 1967) بعنوان: "الله والإسلام في الجامعة الأميركية" انتقد فيها مؤتمرًا هزيلًا عقده شارل مالك بعنوان: "الله والإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر" ووظّفه في خدمة "الحلف الإسلامي" الذي كان معاديًا آنذاك للرئيس جمال عبد الناصر.
لم تحرفه الفلسفة والسياسة عن الأدب. لكن الأدب كان مصدرًا من مصادر التفكير لدى صادق العظم، ومرجعًا لبرهان أفكاره. فعندما درس نيتشه وجد في روايات دوستويفسكي تأكيدًا محسوسًا لأفكار صاحب "هكذا تكلّم زرادشت". وعندما تناول أدب سلمان رشدي رأى فيه أدبًا من الممكن مقارنته بأدب "فرانسوا رابليه". وكان لزوجته فوز طوقان الأثر الكبير في تقريبه من الأدب العالمي، حتى صار "يتخانق" مع زوجته بلغة الأدب. مرة صاح بها: "أتظنّنين أنك ميديا؟"، وهي عبارة من مسرحية يوربيدس المعروفة. وفي إحدى المرات صرخت به: شو مفكّر حالك طالع من مسرحية دونجوان؟" (إحدى مسرحيات موليير). وعلى الرغم من ذلك، ظلّت لغة الفيلسوف ولغة المفكّر متغلّبة على لغة الأدب لديه. وكان أصدقاؤه يتندّرون عليه بالقول: لو أراد صادق العظم أن يكتب رسالة غرام إلى حبيبته لكتبها كما يلي: "أحبّكِ للأسباب التالية: أولاً...، ثانيًا...، ثالثًا...".
الفكر السجالي
استخدم صادق العظم السجال أسلوبًا لمنازلاته الفكرية. فكان يعمد إلى تفكيك منهج الخصم ثم ينقض عليه فيطيح مقولاته. وسجاله مع إدوارد سعيد عن "الاستشراق" يستعاد اليوم لمصلحة صادق العظم، لأن كتاب "الاستشراق" خدم، في بعض جوانبه التفسيرية، المقولات السلفية المعادية للغرب بالجملة. وقد مهّد دفاعه عن إبليس في "نقد الفكر الديني" الطريق لظهور كتب شديدة الجرأة في هذا الميدان مثل كتابات نصر حامد أبو زيد أو حتى محمد شحرور في "الكتاب والقرآن". وفي دفاعه عن إبليس أعاد النظر في هذه التراجيديا، ورغب في البرهان عن أن الأدب العربي القديم ليس خاليًا من الملاحم على غرار الملاحم الإغريقية، وأن قصة إبليس هي تراجيديا حقيقية. وكان من نتيجة هذا الكتاب أن اوقف صاحبه في 19 كانون الأول 1969، وأدخل إلى السجن في 8 كانون الثاني 1970، ثم أخلي سبيله في 15 كانون الثاني 1970، وحوكم في 27 من الشهر ذاته، وصدر الحكم بردّ الدعوى في 7 تموز 1970. وكان معه في الدعوى الكاتب والناشر المعروف بشير الداعوق. ومن مفارقات ذلك الزمان أن صادق العظم كان الكاتب الوحيد على الأرجح الذي فرّ من العسف في لبنان ليلتجئ إلى سورية، بينما كانت العادة أن يفرّ السياسيون والعسكريون المهزومون جراء انقلاباتهم من سورية إلى لبنان. غير أن موقفه من المادية في كتابه الحواري "دفاعًا عن المادية والتاريخ" الذي حاوره فيه قيصر عفيف كان دفاعًا مزدوجًا: دفاع عن الفكر النقدي التاريخي في تناول الرأسمالية، ودفاع عن المادية استنادًا إلى الفلسفة الحديثة وإلى الثورة العلمية المعاصرة. وفوق ذلك كان دفاعًا عن المادية الماركسية حين تخلّى عنها معظم الشيوعيين. ودافع أيضًا عن سلمان رشدي. ولعلّ صادق العظم كان الوحيد في العالم العربي الذي لم يدافع عن سلمان رشدي فحسب في كتابه "ذهنية التحريم"، بل فضح الكتاب والنقاد العرب الذين تصدّوا لرواية "الآيات الشيطانية" من غير أن يقرأوا هذه الرواية، وكرّس لهذه الغاية كتابًا بعنوان: " ما بعد ذهنية التحريم".
الحياة الثقافية في لبنان، وفي العالم العربي، مدينة لصادق جلال العظم ببعض توهّجها وحيويتها منذ أن هبط مدينة بيروت قادمًا من دمشق في منتصف ستينيات القرن العشرين. وفي أرجاء بيروت أشعل كثيرًا من المعارك النقدية، وأدمن مناكفة السلطات السياسية والدينية. ومن مآسي الزمن العربي، كما يلوح لي، أن بلادنا العربية، بعد نحو خمسين سنة على ظهور جيل صادق العظم، ما برحت تئنّ تحت معضلاتها التي لا تنتهي، والجاثمة فوقها كأهرام الجيزة. وبعد مئة وخمسين سنة من التنوير، ها هي قضايا السفور والحجاب والاختلاط وعمل المرأة تعود إلى حقل السجال الفكري، كأن هذه البلاد المبتلاة بالتحجّر والجمود ما زالت تسير إلى الوراء، وكأن كتابات التنويريين العرب، أمثال صادق العظم، لم تتمكّن من شق الصخور العربية الراسية كالجبال.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها