"ماذا تعني جثّة الأب؟" يتساءل الرجلان والإمرأة داخل الميكروباص الذي يحملون فيه جثّة والدهم الموشِكة على التفسّخ، لنقلها من الشام إلى قرية العنابيّة ثم دفنها هناك، تنفيذاً لوصية أبيهم. "كان السؤال قاسياً لكنه حقيقي في هذا الليل. كانوا ثلاثتهم يفكرون فيه، لكنهم لا يملكون جواباً واضحاً" (ص 43).
لا ينفكّ السؤال نفسه يلحّ على قارئ رواية خالد خليفة الأخيرة "الموت عمل شاق"(*)، نظراً لمدى ما تبدو هذه الجثّة حاملة لرموز يتوجب فَكُّها. هي جثّة عبد اللطيف السالم، العجوز السبعيني والمُدرِّس السابق الذي كان قد وقع في صباه، كمعظم أبناء جيله، ضحية أحلام سياسية عروبية وبعثية أودت بسوريا إلى الطغيان والفقر، ثم الخراب والموت. أنشأ عبد اللطيف أولاده الثلاثة على نُبل الأخلاق واحترام القيم، فأراد لهم مستقبلاً باهراً وترفاً مادياً يُعوضّان له عن سني الخيبة والحرمان المديدية التي اختبرها. لكن سرعان ما غدا أولاده نُسخاً عن الفرد السوري النموذجي: أشباح رمادية باهتة، تَقبع تحت وطأة خوف دائم في مجتمع مخابراتي بيروقراطي رتيب، ينخره الفساد، فلا يَترك للمرء أي فسحة للعيش سوى في أحلام يقظته. لم يتبقَّ حينها لعبد اللطيف سوى حياة زوجية تبدو سعيدة خارجياً، مليئة بحسرة ومرارة باطنيتين، أبعدتا شيئاً فشيئاً بين الزوجين، فراح يعاوده شوقه إلى حبه الأول نيفين.
لكن ها هي أولى شرارات الثورة السورية تُشعل لهيب الفُتُوّة في جسده العجوز: يتقدم عبد اللطيف المظاهرات مردداً الهتافات، يُساعد في إسعاف الجرحى ودفن الموتى، يحمل السلاح ويحارب إلى جانب الثوار، يتزوج من نيفين الستينية المترملة، وحين يداهمه المرض، يوصي ابنه بُلبل بدفنه في قريته العنابية فيموت مفعماً بالأمل، واثقاً من انتصار الثورة ومن أن غد سوريا مشرق لا محالة.
كل ما سبق ذكره عن حياة عبد اللطيف، نَعلمه من خلال أولاده الثلاثة: بُلبل وحسين وفاطمة، وهم يجترّون ذكرياتهم، صامتين إلى جانب جثة أبيهم، في داخل ميكروباص حسين الذي يجتازون بواسطه مئات الكيلومترات من الأراضي السورية المتعاقبة مشاهدها، أمام ناظري القارئ، كلقطات من فيلم هوليوودي عن ما بعد نهاية العالم.
يعتقد الشقيقان والشقيقة رحلتهم هذه فرصة للمّ شمل العائلة والتقارب بعد سنوات طويلة من غربتهم عن بعضهم البعض نتيجة أحقاد دفينة. هي كذلك فرصة لمراجعة حيواتهم، عبر قيام كل شخصية برحلة داخل ذاتها، بحثاً عن معنى ما وأملاً ببداية جديدة.
لكن عدوى البحث عن المعنى تصيب القارئ أيضاً، فيروح ينبُش بشكل محموم أحشاء جثّة الوالد، لعلها تُفشي سرّها وتُشير دون أي مواربة إلى هذا الشيء الذي قد ترمز إليه: فهل الجثة استعارة لسوريا الماضي؟ أو حتى الحاضر؟ سوريا التي ماتت وستدفن؟ وهل سيرة عبد اللطيف، كما كتب يوسف بزّي في مراجعته للرواية، "كناية عن سوريا نصف قرن من أوهام وأحلام سياسية وبراءة فكرية وإيمان ساذج بالعقائد، أودت بسوريا وأهلها إلى جحيم العسف والطغيان والشر اليومي، لسلطة تسحق الأحلام والكرامة البشرية"؟
لكن الجثة تبقى خرساء، لا تُشير سوى إلى مادّيتها المحضة: تتشقق، تتعفن، تنزّ قيحاً أصفر و"تتناسل الديدان منها بكثافة" (ص 142) بينما رائحتها المتزايدة نتانة تصيب ركاب الميكروباص الثلاثة بالدوار خلال الأيام الخمسة لرحلتهم البرية عبر الكابوس السوري: حواجز النظام والثوار والنتظيمات الإسلامية، القصف المتواصل والعشوائي والحُطام والعربات المُتفحّمة، القتل والسجن والإغتصاب والتعذيب والكلاب المسعورة التي تنهش الجثث المرمية بكثافة على قارعة الطرقات. وفي خضمّ ذلك، يتّسع الشرخ بين أولاد عبد اللطيف ويتجلى لهم عدم جدوى محاولاتهم لإكتشاف ذاتهم وتغيير مصائرهم، فيعاود كل واحد منهم، بعد تنفيذهم لوصية الأب، مواصلة حياته السابقة مثل "جرذ كبير يعود إلى جحره البارد، كائن لا لزوم له ومن الممكن التخلي عنه ببساطة" (ص 151).
قد يعي القارئ عندها أن الجثة – كما الرحلة والقصة – ليس لها أي معنى. هي لا ترمز إلى الحرب، لكنها تشبهها بحضورها الطاغي والمرعب والعصي على الفهم. وبهذا يكون خليفة قد كتب رواية عن عبث الإستعانة بالرموز والإستعارات في وجه أهوال لا يسعنا سوى تدوينها من دون البحث عن دلالاتها.
(*) رواية "الموت عمل شاق" للكاتب السوري خالد خليفة. دار نوفل – هاشيت أنطوان، 2016. 160 صفحة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها