الخميس 2016/01/28

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

شقاء أوروبا الوسطى

الخميس 2016/01/28
شقاء أوروبا الوسطى
اغوتا كريستوف تروي بلغتها المتقشفة، الكتومة والطبيعية، تعاسة بشر الحرب العالمية الثانية
increase حجم الخط decrease
قبل سنوات ترجم الشاعر الراحل بسام حجار روايتين للمجرية الطفولة والصبا، والمهاجرة إلى سويسرا في العشرين من عمرها، والفرنسية اللغة الكتابية، أغوتا كريستوف (1935-2011).

الروايتان هما "أمس" و"الكذبة الثالثة". وهذه الأخيرة هي الجزء الثاني من ثلاثية كريستوف الروائية التي ترجم أحمد آيت حنا جزئيها: "الدفتر الكبير" (2015) و"البرهان" (2016)، بعد ترجمته سيرتها الصغيرة المقتضبة "الأمية"، وهي صدرت كلها عن "منشورات الجمل".

عالم أغوتا كريستوف الروائي شديد الاقتضاب والتقشف والدقة. وهو غريب عن اللغة الفرنسية التي كتبت بها بعدما تعلمتها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة، كما يتعلم الأطفال الكلام، لكن وهي في العشرين من عمرها، ووحيدة في الأمسييات، بعد عودتها من عملها المضني والمرهق في مصنع للساعات في مهجرها السويسري. جهلها التام باللغة الأدبية والثقافية الفرنسية وغربتها عنها هما ما منح كتابتها الروائية قوتها وحدّتها الاستثنائيتين في تلك اللغة التي أدرجت أعمالها في خانة الأدب الروائي الطليعي للمنشقين عن أنظمة السلطان التوتاليتاري الشيوعي السوفياتي في أوروبا الوسطى والشرقية، من أمثال الروماني إميل سيوران والتشيكيان إيفان كليما وميلان كونديرا وسواهم.

لكن أعمال كريستوف تتميز عن أعمال أمثالها من المنشقين المهاجرين بأنها كتبت في اسلوب متفرد في غربتة التامة عن المصادر الثقافية والنخبوية للأدب الأوروبي الحديث. ذلك أنها ولدت ككاتبة في لغة (الفرنسية) تعلمتها قراءة وكتابة كعاملة عاميّة مكتئبة، صامتة وخرساء وأمية، مما جعل كتابتها تجسيديّة وماديّة ومتقشفة في نقلها حياة البشر إلى اللغة على نحو يشبه نقل أشياء "الطبيعة الميتة" في الفن التشكيلي أو فن الأيقونة والتصوير الفوتوغرافي الفني بالابيض والأسود. وهذا ما جعل عالمها الروائي معتماً ورمادياً، قديماً وبلا ألوان. كأنما البشر في هذا العالم أقدم من اللغة، أو أن اللغة تلتحم بالعالم المادي وأشيائه التحاماً كاملاً لتقوله قولاً مادِّياً خالصاً، من دون مخيلة ولا تخييل، ولا ثقافة ولا محاكاة لمثال ولا إيحاءات ولا صرر، ولا إحالات إلى معان وقيم وأفكار خارجية.

لوكاس، الشخصية الرئيسة في "البرهان"، في الخامسة عشرة من عمره. يقيم وحيداً في منزل جدته الميتة منذ سنوات في بلدة حدودية صغيرة. في "الدفتر الكبير" كان في السابعة أثناء الحرب العالمية الثانية، فأتت به أمه مع أخته التوأم وأودعتهما في منزل جدتهما، أمها، وعهدت اليها إطعامهما من جوع، وغادرت. بعد مدة عادت الأم حاملة طفلة رضيعة أنجبتها. أمام منزل الجدة سقطت قذيفة، فمزقت جسديّ الأم ورضيعتها. بعدما كبر لوكاس أخرج الهيكلان العظميين لأمه والرضيعة من القبر، وعلّقهما فوق سريره في غرفته. في نهاية الحرب أتى والده إلى البلدة الحدودية، ومع أخيه التوأم حاول اجتياز الحدود، فقُتل الأب ونجا الأخ. حرّاس حملوا جثة الأب الممزقة ووضعوها أمام منزل الجدة. لوكاس أنكر معرفته بوالده، صاحب الجثة الممزقة. بعد أيام رأى صبية في الثامنة عشرة تحاول إغراق طفل رضيع في النهر خلف منزل الجدة، فأتى بهما الى المنزل. الصبية، ياسمين، تروي للوكاس: ليس لي والدان. توفيت أمي ساعة وضعي. حين عاد والدي من الحرب تزوج خالتي التي ربتني. لم يكن يحبها. لم يكن يحبُّ سواي. كنت أكبر. وظل أبي يداعب نهدي. ذات يوم أثناء رقادي أخذتُ يده ووضعتها بين فخذيّ. ذات مساء اضطجع فوقي. وضع عضوه بين فخذيّ. لسنوات مارسنا الحب بهذه الطريقة. كانت رغبتي به عظيمة جدا. وذات ليلة لم أستطع كبح جماح شهوتي ففتحت فخذي. كنت مشرعة تماماً ودخلني والدي، ومنه حملتْ وانجبتْ. تصمتُ ياسمين. تنظر إلى لوكاس. تُخرج نهدها من قميصها وتسأله: أتريد؟ أمسكها لوكاس من شعرها، وجرّها الى الغرفة، ثم القى بها على سرير الجدة، وواقعها وهو يعضُّ رقبتها.

هذا مثال نموذجي مكثّف وملخّص للأسلوب الذي كتبت به أغوتا كريستوف ثلاثيتها الروائية. وهو أسلوب يكتم الألم الذي تفصح عنه الروائية البيلاروسية سفيتلانا الكسيفيتش، حائزة نوبل للآداب للعام 2016. ففي روايتها "نهاية الإنسان الأحمر أو زمن الخيبة" تنقل الكسيفيتش شهادات لمئات الأشخاص يروون مقتطفات من سير حياتهم. أحدهم تقول: "الألم على الدوام موضوع أحاديثنا. إنه طريقنا الى المعرفة...نحن (من) خبرنا معسكرات الاعتقال، وغطّينا الأرض بجثثنا في أيام الحرب، جمعنا بأيدينا العارية الشظايا النووية من تشيرنوبيل. وها نحن الآن متحلقون على أنقاض الاشتراكية، نرطن بلغتنا الخاصة، لغة الألم".

اغوتا كريستوف في ثلاثيتها الروائية تروي بلغتها المتقشفة، الكتومة والطبيعية، تعاسة وشقاء بشر الحرب العالمية الثانية وبعدها بسنوات قليلة. وذلك في بلدة مجرية ريفية ومدينة صغيرة مجاورة لها، حيث لم تُبقِ الحرب سوى بقايا بشر تعساء أشقياء، يأرقون ممزقين منقطعين ومشردين. حتى ليتساءل المرء كيف استطاعت بلدان أوروبا الوسطى والشرقية التي طحنتها الحروب النازية والستالينية من استعادة حياتها كمجتمعات من الصفر والرميم اللذين ترويهما كريستوف، حيث التعاسة والشقاء البدنيين والروحيين يعاشان كقدر توراتي غير قابل للتغير والزوال. تعاسة وشقاء طبيعيان بلا وعد ديني ولا دنيوي بخلاص لا يبدو أنه من طبيعة الحياة البشرية.
 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها