الأربعاء 2016/01/20

آخر تحديث: 12:26 (بيروت)

السخام حارس النور في "قلمون" نزار صابور

الأربعاء 2016/01/20
increase حجم الخط decrease
"حين هبّت العاصفة.. حتى الآلهة ارتعدت.. ابتعدت صاعدة نحو السماء. حين الحرب.. كأن كل شيء قد غادر المكان... القدّيسون والبشر وأثرهم!"، هكذا قدّم الفنان التشكيلي السوري نزار صابور، معرضه الفنيّ الجديد، في صالة مارك هاشم، تحت عنوان "القلمون" في إشارة مباشرة إلى تيمة المعرض، وهي "معلولا" بيت قصيدة الفنان البصرية، تلك القرية التراثية والعريقة التي تحتضنها سلسلة جبال القلمون، وكانت بيوتها المعلقة وناسها وكنائسها وأديرتها مصدر وحي لكثير من الفنانين التشكيليين السوريين واللبنانيين العريقين على مرّ الزمن، من أمثال صليبا الدويهي، جميل ملاعب، ولؤي كيالي، وفاتح المدرس وغيرهم من الفنانين.

زائر المعرض سيعثر سريعاً على خطّ  نزار صابور الفنيّ المشبّع بالأجواء المشرقية العريقة والمرصّع بالأيقونات وهامات القديسين والملائكة، في احتفاء تجاورهم مع البشر الأتقياء الذين لم يفسدهم شرور العالم.

 لا خروج عن الخط الذي اعتدنا على رؤيته في أعمال الفنان. خطّ زاخر بالغموض وبسرديات خفيّة أشبه بطلاسم ومربعات تعبق بعطور البخور. لا خروج عن الخط في معرضه الجديد، بل اجتراح لمعالم أخرى رشحت من تحول "معلولا" والعديد من القرى المجاورة لها، منذ فترة تقارب الخمس سنوات، إلى محطات حرب وحرائق تتنافر تنافراً قاطعاً مع أجوائها الروحانية حيناً والشعرية حيناً، والتراثية الصامدة في وجه الزمن حيناً آخر. مع العلم أن الخطوط التي تفصل ما بين الصوفي والشعري والتراثي في مجمل أعمال نزار صابور، هي خطوط شديدة الإلتباس والتصدّع المقصود حتماً من قبل الفنان، إذ ربما أراد ولا يزال يريد من تلك الخطوط المتعرجة والأخاديد المحفورة على سطح اللوحة، أن تبقي المجال مفتوحاً أمام تداخل الأجواء تداخلا كاملا يضاعف من غناها البصري ودلالاتها الرمزية.

لا يزال الفنان شغوفاً باستعمال المواد الطبيعية في تشييد لوحته كالرماد والرمل والطين، لكن مع اضافة لمادة جديدة وهي "جفت الزيتون". مادة أحدثت تحولاً عميقاً في تعبيرية الأعمال حينما سكبها الفنان في مواضع مُحددة وبطبقات ترقّ حيناً وتتكثف حيناً آخر على قماش ألصقه على الجزء الأكبر من اللوحة.

لعل أجمل أعمال الفنان في هذا المعرض وأكثرها تأثيراً، هي تلك التي دخلت إليها هذه المادة السوداء التي تمتص الضوء من ناحية، وتجذبك كي تتحسسها، لتجد نفسك مسروراً بها على الرغم من سوادها المدقع. لا عجب في ذلك إذ كل ما يمت للزيتون وأشجار الزيتون بصلة له وقع آسر في النفس.

لا مبالغة في القول أن هذه المادة تكاد تكون أروع ما أدخل الفنان إلى نصه الفني الجديد. ولعل دخول هذه المادة برمزيتها وسحرها الضمنيّ، بدا في أكمل خصوصيته عندما أستخدمها الفنان في اللوحات التي تمثل مشاهد واسعة لقرية "معلولا"، إذ أنشأ إلتباسا شعرياً وإزدواجية في المعنى المطروح في هذه اللوحات بشكل خاص. فمن ناحية يرتفع اللون الأبيض من البيوت والأديرة وكأنه يمنع السواد، المتمثل بجفت الزيتون المشير إلى الحرائق وسخامها الدبق، من الإنهيار على معالم القرية الرقيقة بأجوائها والصلبة بتاريخها. لكن من ناحية أخرى، تكمن المفارقة في أن هذه الطبقة السوداء التي تتنفس حول أو فوق قرى "معلولا"، هي حارسة النور لأنها تزيد من دراماتيكية بصيص الأنوارالخافتة التي تبثها شبابيك القرية (بعضها ملّون بالأصفر والأحمر والأزرق) كإبتسامة مُجرحة ومٌتألمة، لكنها ابتسامة خافتة عابقة بذكرى الزيتون تقول: لا للموت. نعم للخلود.


(*) يستمر معرض "القلمون" للفنان نزار صابور حتى 22 كانون الثاني الجاري.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها