الأحد 2016/01/10

آخر تحديث: 13:52 (بيروت)

أسامة بعلبكي: أنقّح ألواني بالسينما..فالواقع أكثر تشويقاً من الخيال

الأحد 2016/01/10
increase حجم الخط decrease
خلال شهر آب الفائت، والذي تميّز بحرارة ورطوبة غير مسبوقتين، التقيت عن طريق الصدفة بالفنان التشكيلي اللبناني أسامة بعلبكي، سألته عن مشروعه الفني وإن كان في صدد تحضير لمعرض جديد، أجابني "الآن، أنا لا أرسم. الألوان "تسوح" وأنا "أسوح" و كل شيء يسوح من حولي. أنا في انتظار انتهاء موجة الحرّ!".

أما اليوم وفي صالة غاليري "أجيال" - بيروت(*)، فنحتفي بأعمال الفنان الجديدة التي اشتغل عليها خارج شهر آب حتماً، وقد أدخل إلى آفاقها وبشكل يكاد يكون ثورياً لونا أزرق يتسم بالعمق. أزرق على حافة الغرائبيةً لأنه يشي بالبرودة من جهة وبالصخب النابض من جهة أخرى. إنه اللون النزق، وقد تجلى دفعة واحدة في لوحات الفنان خاصة تلك التي تحمل عناوين"نزهة ليلية" و"سماء متداعية" و"يوم عادي آخر" و"قمر نافذ التأثير".

يقدم أسامة بعلبكي أعماله الجديدة مشغولة على مادة الأكريليك المفضلة لديه. وعمد كعادته إلى جعل هذه المادة ناطقة بأحواله الشخصية وأفكاره وبأساليب تقنية مختلفة. يوظفها الفنان أحيانا عبر اعتماده تقنيات التلوين الزيتي لناحية تمازج الألوان واجتراح الخيالات وأحيانا أخرى يستخدمها بطريقة تحيل المشاهد إلى خاصية الأكريليك، هذه المادة البلاستيكية "السائلة" التي توحي بالصلابة وغياب التبطين، وحضور الصوت الجهور، حتى وإن طوعتها يد الفنان في مواضع كثيرة من اللوحة برقة الريشة أو بإيضافة قطرات من ماء لطّفت من قساوة المادة.
مشاهد أعماله على مدى السنين الفائتة يشعر بأنه أمام فنان تكمن الألوان الزيتية في قلبه ولكن على يده أثار استخدامه الحثيث لمادة الأكريليك!

غير أن الجديد في أعمال بعلبكي، دائم البحث والعمل على تطوير نصه الفني، يكمن تماماً في تظهير"لصوت" الأكريليك بشكل عنيف، وهي كلمة "دخيلة" على عالم اسامة بعلبكي الشعري والمتميز بالحضور الذهني الدائم والقامع لأي تفلت يراه مخالفاً للواقع، كما يراه ويفهمه طبعاً. اذا أن الفنان مجبول بملاحظاته اليومية لما حوله وبما في داخله ومنغمس في قراءات عمّقت من خبرته الفنية وأعطتها نبرة خاصة تميز بها.

الأكريليك "الأزرق" كما نوّد أن نطلق عليه، استعمله الفنان بأسلوب جديد، إذ تركه يصدح في آفق اللوحة من غير رقيب ولا حسيب. أما النتيجة فكانت مُذهلة، إذ بدت تلك اللوحات التي غاصت في زرقتها متوترة بعصب جديد أراد للمرة الأولى، أو سمح لذاته للمرة الأولى أن يفصح عن ذاته بالكامل. وحول ذلك يقول بعلبكي لـ"المدن": "أعتقد أن تلك الأعمال نتيجة لتبدّل ما في شخصيتي. اذ بتً في الفترة الأخيرة أكثر انفتاحا على الآخرين وأكثر ميلاً إلى التخفيف من الرقابة الذهنية التي أمارسها وأنا في صدد العمل على لوحتي. لكن ذلك لا يعني البتة غياب العاطفة. بل يعني سلطة العقل على القلب، وسلطة التفكير التحليلي على الشعور العفوي". ويضيف: "الرغبة في التخفي تصبح مستحيلة عندما تسطع الألوان بجذريتها الأولى. لون العصر مثلاً. لون الضوء في هذا الفترة من النهار لون آسر يتحكم في المشهد مهما كان رمزياً أو مشغولاً بفكرة ما".

ربما خطر على بال الفنان أثناء كلامه هذا، صورة لوحته الموجودة في المعرض والتي أطلق عليها اسم "بيروت، صباح الخير"، حيت تتصدع السماء البيروتية بلون العصر المميز من دون أن تغيب عنها "سقالة" البناء العابرة لأفاقها.

في المعرض لوحة واحدة تجسد صورة شخص واحد. صورة شخصية مهيبة  "استحضر" شبحها الفنان من عالم الشعر والنقد الفني، وهي للشاعر شارل بودلير. رسم الفنان بورتريه الشاعر وفق صورة فوتوغرافية شهيرة له. ثم وضع خلف أذنه "إشارة" غامضة- واضحة: زهرة صفراء منفذة بطريقة مخالفة تماما للأسلوب الواقعي الذي رسم فيه صورة الشاعر. ربما لإحداث نوع من الصدمة، ربما تقول: "هذا بودلير. وهذا شبحه. انها صورته مُعدلة. مُعدّلها هو هذه الزهرة البسيطة البتيلات والواضحة القسمات. الزهرة هي أنا، عندما اتقمص دور الحاضر المُصغي لذبذبات الماضي".

 يضع الفنان أعماله تحت عنوان "شبحيات الواقع" ولعل ذلك يظهر في هذه الإضاءة شبه "الفلوريسانية" التي تبثها أعماله، أو أغلبها على الأقل، فتبدو وكأن شبحيتها تفيض منها كما يفيض الضوء الإصطناعي من شاشة التلفزيون.

وليست هذه الشبحية نوعاً من أنواع الخيالات أو الأوهام، بل هي تشديد على حضور الواقع بسطوته وغلبته على الخيال. وهذا ما يؤكده بعلبكي حينما نسأله عن هذا الوميض الداخلي الذي تختزنه لوحاته: "ألواني، وكأني أردت أن أنقّحها بألوان سينمائية...الواقع أكثر تشويقاً من الخيال.. الواقع مرجعية لا تنضب بالنسبة لي وهو يبث صوره الشبحية صورة إثر صورة".


(*) يفتتح المعرض في 12 كانون الثاني الجاري ويستمر حتى 6 شباط 2016
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها