الإثنين 2015/03/09

آخر تحديث: 14:20 (بيروت)

شِعر منذر مصري: يُبعث من رماده رُغماً عن "البعث"

الإثنين 2015/03/09
شِعر منذر مصري: يُبعث من رماده رُغماً عن "البعث"
أحرق الكتاب بسبب قصيدة "ساقا الشهوة" الإيروتيكية، التي أفرد لها منذر مقدمة فانتازيا تاريخية
increase حجم الخط decrease
لا يمكن أن ينتمي كتاب منذر مصري - "داكن" - إلى الزمن الذي كُتبت فيه قصائده، كما لا يمكن أن ينتمي إلى الزمن الحالي. المعادلة الزمنية في هذا الكتاب، أصعب ما يمكن تتبعه في وجه الذاتي المتمرد على الأفكار والمعترض العبثي على جواهرها أيّاً تكن.

"داكن"، المجموعة الشعرية التي صادرتها  وأحرقتها رقابة النظام البعثي في سوريا، أواسط الثمانينات، أعادت دار "أرواد" نشرها مؤخراً، لنكتشف من جديد أن شعر منذر هو بالضد من السهولة التي يوحي بها. فهو بالدرجة الأولى كتابةٌ شفوية، تحتاج إلى الكثير من الجهد كي تصبح شعراً، لأن مادتها الأصل هي الكلام، لا البلاغة، وتقنيتها الشعرية تقع في محيط الكتابةن لا في صلبها. وذلك، في زمن لم يكن يحتمل سوى النثر البرناري (نسبة الى سوزان برنار) أو التفعيلة الدرويشية (نسبة الى محمود درويش).

"يا لي من شاعر كئيب/ أبعث على الضجر/ أهذر عن أي شيء/ ولا أبالي ما هو/ ولمجرد تلطيخي وجهه بالسُخام/ أحسب أنه سيصير في أعين الآخرين/ شعراً"... تكاد تكون هذه القصيدة معياراً دقيقاً لرصد كتابة منذر، إذ انها تعبّر عن رغبته في تغيير الشعر وقلبه رأساً على عقب بحيث لا تكون الذات موضعاً للكتابة، بل أداة يتم تطويرها اثناء السرد، ويجري التنويع عليها لتصبح ذوات كثيرة حتّى ضمن القصيدة الواحدة. نمرّ على السخرية والاستعلاء والانكسار كما الحزن والاحباط الفردي الذي يستحوذ على الكثير من القصائد. ويتم هذا العبث بالذات بشكل مُتقن إلى درجة لا تُلحظ فيها الصُنعة بل خدعة العفوية واللامبالاة. "لستُ سِوى طفلٍ ضائعٍ يبكي/ حين ينزعُ الشعر كُمّ قميصه من قبضتي/ ويخرج لقضاء إحدى حاجاته".

يمكننا حقاً أن نمايز شعر منذر، عن الشعر السوري بشكل عام، فبسبب تجربته الفردية يكاد يكون مرتاحاً من عبء التأثر بأنماط وأساليب الشعر العربي الحديث. الشعر في "داكن" يُقارب الكلام التجريبي ويبتعد عن التجريب في اللغة واستجرار الكلام منها. على العكس، يفرض منذر أفكاره ويومياته على اللغة، فيفتتح قصائده بأي صيغة لغوية مُتاحة في لحظة الكتابة: "كلا لا أعرف ماذا تُسمى/باللغة العربية الفُصحى/ السحابة العابرة"، أو "شيء ما سقط عليّ". كأن منذر يجرب القول العادي واليومي، يحكي قصائده قبل أن يكتبها، ومن ثم يدوّن التجريب فيبدو لنا أنه يأتي إلينا ويخبرنا عن مشاكله وقصائده شفهياً، فيخلق تنوعاً أسلوبياً مدهشاً، كأن يبحث مثلاً داخل قصيدته عمّا يُمكن أن تُقفل به فيحار: "أقسم إني لا أدري/ أي حذاء أنتعل/ الأسود/ أم/ البني؟".

مع كل تلك الفرادة المنذرية، يُمكن رصد "فولك" بوب ديلان و"روك" ميك جاغر وتمرّد سيد باريت في قصائد "داكن"، التي ينفع بعضها لأن يُغنّى، بما يُشابه أيضاً قصائد "رودريغس" الفوضوية، التي كتبها وأغصب الموسيقى على كلماتها. "لقد قطعت شوطاً طويلاً/ على دربٍ أعلم أنّه/ لا يؤدي أبداً إلى نهايته/ همي فقط أن أصلَ/ إلى حيث/ يستحيل أن أعود". وعلى الرغم من تحدّر منذر من عائلة برجوازية ساهمت في إبعاده عن الإيديولوجيا التي ساقت رفاقه إلى سجون "البعث"، فإنه أشبه بـ"رودريغس"، شاعر العشوائيات في مدينة ديترويت، والذي اكتشفه الناس في وقتٍ متأخر جداً.

"داكن" الممتد في 186 صفحة، يُقسم إلى فصول سبعة، تتمحور بشكل أساسي حول منذر ذاته والشعر والغربان... وأخيراً، "ساقا الشهوة" القصيدة الإيروتيكية التي أُحرق الكتاب بسببها، وأفرد لها منذر مقدمة فانتازيا تاريخية، جاعلاً من نفسه منذريوس مصريام، وحاشراً شخصيته في زمن بولص الرسول، كما فعل ميلان كونديرا مع غوتة وبيتهوفن. كذلك يترك منذر نفسه في مقدمته الطويلة، متحدثاً عن قصائده بنفسه، وعن الشعر بشكل عام، ممارساً النقد الحديث بأسلوب المقالة داخل النص الأدبي، فتضيع هوية الكلام الذي يحتمل الجد والفكاهة والنقد في الوقت ذاته.

في معظم قصائده، يعمد منذر إلى اتباع هذه التقنية في تمويه هوية النص، وجعلها مائعة بلا وُجهة محددة، كي لا يتم تصنيفها ووضعها على رف نقدي بمسمى مُعين. وإذا كانت "قصيدة قميص الصدأ" تعتمد الرمزية الإيروتيكية، فإن قصائد مثل "هذه المرة أتيت أصغي"، و"لن أفعل بالرغم من رجائك"، تعتمد تمويهاً من نوع آخر. فهي موضوع حُذفت عناصر المعنى مُنه، وتُرك الكلام الذي يملأ الفراغ بين المعاني التي يعتقد منذر أننا لسنا بحاجة إلى معرفتها حقاً حتى نتلمّس شعره. "في مقدوري أن أتحدث لك عن العالم/ أعرف جميع النعوت الدارجة/ وأعرفُ أخرى لم تستعمل بعد/ لكني لن أفعل/ بالرغم من طلبك".

في المقابل، لا يجري عند مصري حذف المعنى اعتباطياً، فنصوص "داكن" تمرّ على إشكاليات الذات والعلاقات البشرية والله والشهوة والجسد والتجربة الحياتية. إلا أنه يريد أن يرينا ما يحمل المعنى أكثر من المعنى ذاته، أي ما يجعل للمعنى سياقاً في حياتنا، كبياض الورق حول القصيدة والشعر الذي "أنه بالتحديد/ حيث تمعن النظر/ ولا تراه".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها