الجمعة 2015/01/16

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

"وحشة" رفيق علي أحمد... الآداء المتماسك والنص المربك

الجمعة 2015/01/16
increase حجم الخط decrease
لم يكن غريباً أن يختار النجم المسرحي اللبناني رفيق علي أحمد، شخصية المتشرّد كي يعبر من خلالها إلى سيرة الوجع الذاتي، الممتدة إلى سيرة الخراب العام في البلد. فبيروت المدينة التي تزداد قساوةً يوماً بعد يوم، لفظت أبي ميشال إلى شوارعها بعد أن فقد كل شيء، ليسرد علينا وِحشته في مونودراما غنائية من نصه وإخراجه، تتوتر بين الكوميديا والبؤس والوجع على خشبة مسرح مونو في بيروت مساء أمس.

أبو ميشال المأزوم بوحدته بعدما هجرته زوجته وأولاده، يحاول أن يبحث عن أي شيء يملأ هذه الوحشة أو يخفف من وطأتها في برد الشتاء. لكن حقيقة وجوده على الرصيف تجعل من المحيط قاحلاً وصلفاً، لا يجد أنيساً إلّا قطط الشوارع ويأكل ما تتركه له خادمات البيوت من مشروب وبقايا طعام في حاوية القمامة، عدّة أي متشرد كي يحافظ على موقعه في شوارع المدينة.

أبو ميشال الذي شاخ وحيداً ومتسولاً، لم يكن كذلك في شبابه، حتى ان اسمه الحقيقي ليس "أبو ميشال"، بل هو تخمين أهل الحي لهوية متشرد يبقى في حالة سكر في معظم الوقت. بقايا المشروب في جيبه ستكون كفيلة بأن تكشفه على مونولوغ طويل يستمر لساعة ونصف الساعة، يمتزج فيه الوجع مع الفكاهة وإصرار أبو ميشال على عرض منطق تفكّري عن كل شيء دفعة واحدة، جاعلاً من الموضوع مروحةً واسعة من القضايا الاجتماعية.

وكعادته لا يتردد صاحب "جرصة" و"الجرس" و"قطع وصل" أن يكون سيّد الخشبة في أدائه المونودرامي، فهو لا يحتاج لأكثر من بعض الصور وحاوية قمامة كسينوغرافياً كي يبقي على الجمهور منساقاً معه في تقلبات شخصيته. في الحقيقة، منذ اللحظة التي يصعد رفيق علي أحمد فيها على المسرح، لا يخطر لأحد أن يسائل وجوده على الخشبة، نظن ونحن نراه يتحرك ويرقص ويغني انه وُجد هنا منذ زمن بعيد وأنه سيبقى بعد مغادرتنا المسرح. فالعلاقة التي تربطه بالمسرح هي علاقة يهيمن فيها رفيق، إلى درجة يتحول فيها كُل شيء إلى بُعد واحد هو شخصية أبو ميشال. الخشبة هي عالم رفيق علي أحمد الممسوك بقسوة بقبضته؛ (بارادوكس) بارز مع عالم المتشرّد المنفلت والمتوحش.

هكذا نرى أن متشرد المسرحية ناقم على كل شيء، وتسوقه جراحه إلى الحديّة. فيبدأ بخطاب يكاد يكون أقرب إلى معاداة المرأة واختزالها وتعميم تجربته الزوجية الفاشلة على مسارات التاريخ البشري مستعيناً ببعض اللوحات لخيانات المرأة التاريخية للرجل. تلك اللوحات تتضمن يوسف وزليخة، هيرودوث وملك إسبارطة وغيرهما. يحتفظ بها أبو ميشال على زاوية الشارع كي يثبت وجهة نظره بالأدلة إذا ما دخل في جدلٍ عارض. نقمةُ المتشرّد تمتد إلى المجتمع والسياسة في لبنان، فيتوقف في سرده عند كذبة التعايش الأهلي والفساد السياسي ووسائل التواصل الاجتماعي ورجال الدين. لكن الخيانة الزوجية وسفر الأولاد يبقيان المحور الذي يجلب الحزن كل قليل إلى المتشرّد فيعود إلى مقعده ليحدث نفسه بأسى. هذا الصعود والهبوط الدرامي، قسّم العرض إلى أطوار متباينة في شكلها ومضمونها، تلبّس فيها رفيق عدّة شخصيات متداخلة، جعلت منه خطيباً ومغنياً وراقصاً وواعظاً في بعض الأحيان.

وعلى خلاف اداء رفيق علي أحمد المتماسك، بدا نص المسرحية هزيلاً وغارقاً في الكليشيهات. إذ أن تنويع الموضوع ليلائم شخصية المتشرّد الذي يعبّر عن هواجسه، لم يُخدم بشكل جيد من قبل النص النازع إلى تناول كُل موضوع من المواضيع المطروحة برؤية بالية إلى حدٍّ ما، تكاد تخلو من أي مقاربة جديدة أو ملفتة. إضافة إلى ذلك فإن شخصية المتشرد التي نجح رفيق في مقاربتها ادائياً وكوميدياً، فشل النص في توثيقها وإخراجها بشكل ملفت. فعلى خلاف ما نتوقعه من متشرد مُتخبط، نرى أبي ميشال لديه عدّة جاهزة للأحكام التقليدية على المحيط. فإلى جانب الخطاب المعادي للمرأة، والذي بالتأكيد يُمكن إدراكه في سياق مستوى معرفة المتشرد لو كان ذكياً في طرحه، ثمّة خطاب آخر ممجوج عن الجيل الجديد اللامبالي، ومخاطر وسائل التواصل الاجتماعي التي سببت خيانة زوجة المتشرّد(ابو ميشال) له، في هذا المكان تحديداً حتى نُكتة علي أحمد لم تُجار رداءة الفكرة التي لم يُعد وارداً طرحها دون معالجة حديثة حتّى ولو على لسان متشرد حاويةُ القمامة، هي كومبيوتره الشخصي.

وفي مكان آخر، يمكننا القول أن التنويع في الموضوع لهذه الدرجة لم يكن ناجحاً، ففي هذا الوقت المتسم بالتحولات السريعة، يكون من الصعب التنويع على الفساد والسياسة والمجتمع والدين والحداثة دون الالتفات المُغاير على كُلٍّ منها. إذ لا يُمكن اعتبار وصف الحكومة اللبنانية بالعاهرة أو رجال الدين بالسارقين خرقاً على مستوى الموضوع. حتّى ان هذه التنويعات الموضوعية هي كليشيهاتية في جوهرها، فالحديث عنها سوياً ينزع غالباً لكتلة جاهزة وجامدة من الأحكام المألوفة. لهذا كان من المتوقع أن ينتهي المتشرّد مخاطباً الله بغضب وحزن وطالباً منه أن يأخذه إلى السماء. المونولوغ الأخير ذاته الذي رأيناه سابقاً في أمكنة أخرى، ويُمكن أن نتوقعه دون اندهاش في عرض وحشة.


تعرض على مسرح مونو وتستمر حتى 5 شباط
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها