الثلاثاء 2014/09/23

آخر تحديث: 13:45 (بيروت)

لا إكراه في الحب!

الثلاثاء 2014/09/23
increase حجم الخط decrease
كتب الصديق دارا العبد الله قبل أيام على صفحته في "فايسبوك" ما معناه أن السوريين في لبنان قسمان، الأول يجلس في المقهى والثاني يقوم بخدمته. حول ما يشهده الكثير من السوريين في الأيام الأخيرة من حملات عنصرية ضدّ وجودهم في لبنان، لم أجد أبلغ من تعبير دارا. لأن حديث العنصرية لا ينطلق من اللبنانيين، بل يمرّ بهم. نقطة الانطلاق هي السوريون أنفسهم. نحن السوريين الجالسين في المقهى و"البيت"، معظمنا لم يتعرّض للعنصرية. ومثلما يعيش السوريون تجارب منفصلة ومختلفة في الداخل، أيضاً في الخارج هم ليسوا كياناً واحداً. في سوريا، هناك من يسمع صوت الصاروخ وهناك من يخترق الصاروخ روحه، فلا يسمع شيئاً سوى الفراغ. وهناك أيضاً من يعيش في مناطق "آمنة" تقطنها غالبية موالية طائفياً أو سياسياً، فلا يعبر سماء حياته صاروخ ولا طائرة ولا برميل.

في لبنان أيضاً، هناك من يجلس في المقهى وينظّر في كل الأمور. في السياسة ينظّر، وفي الطائفية، وفي التقسيم، وفي توسّع "داعش" وتمدّدها، وفي الضربات الأميركية الموعودة، وفي العنصرية التي يتعرّض لها السوريون (كل السوريين؟) في لبنان. وهناك أيضاً، من تعرّض للضرب أو الإهانة أو الاغتصاب أو القتل. هناك اللاجئون، البعض نسي أنهم موجودون أصلاً.

مسؤولية ما يتعرّض له السوري اليوم، يتحمّلها سوريو المقهى، إلى جانب اللبنانيين. الحديث عن العنصرية لا يكفي. لأن العنصرية ليست فكرة مجرّدة تنبت فجأة من الفراغ. العلاقة السورية اللبنانية تحمل تاريخاً مريضاً ومعقداً ومترعاً بالأحكام المسبقة والتنميط. لم يكن متاحاً للطرفين أن يختبرا هذه العلاقة قبل انطلاق الثورة السورية ومجيء ما يعادل نصف سكان لبنان بين لاجئ ونازح وهارب. اليوم، يختبر الطرفان علاقتهما التي تحمل تاريخاً مريضاً ومعقداً. ويحدث أن تفشل هذه العلاقة أو تلك بسبب الاختلاف أو الكراهية أو الإحساس بالظلم، أو ببساطة من دون سبب، مسألة مزاج. ليست نهاية الدنيا وليست كارثة بشرية، أن يفشل السوريون واللبنانيون في خوض علاقة صحية وودودة. لا إكراه في الحب. بعض اللبنانيين لم يجد في السوري صديقاً ولا "شعباً شقيقاً" ولا شريكاً في الحروب الصغيرة والكبيرة التي عاشها الطرفان تحت حكم نظام واحد. وبعض السوريين أيضاً، لم يجد في اللبناني مضيفاً كريماً ومتفانياً ومتعالياً عن الماضي المضجر والمرير الذي عاشه الطرفان. هل هذه جريمة؟ بالطبع لا.

من حق الجميع أن يحب ومن حقه أن يكره أيضاً. الحب والكراهية، ينتميان إلى المشاعر البشرية. والعنصرية أيضاً، شعور يعبّر عنه كل إنسان على طريقته. ثمة من يكتب على الجدران: "إرحلوا" وثمة من يعلق لافتات: "إعرف عدوّك، السوري عدوّك". هناك من يهدّد أطفالاً بالذبح، لكنه كان يمزح! المزاح أيضاً سلوك بشري، مهما بلغت سماجته، حتى وإن وصل إلى حد التهديد بالذبح. هناك من يغتصب وهناك من يقطع الطرقات مستبدلاً الإطارات المشتعلة، بكمشة أجساد سورية مربوطة بعضها ببعض. قطع الطرقات أيضاً، طريقة احتجاج حضارية وإنسانية. وهناك من يشكر سورياً تعرّض للضرب والإهانة، لأنه بعدما استفاق من صدمته، ابتسم وقال: "لا لست بحاقد على من ضربني، لأن من ضربني مكبّل بأزماته الاقتصادية والسياسية وغارق في الزحمة التي سبّبها توافد السوريين وبانعدام فرص العمل نظراً لرخص اليد العاملة السورية. لا لست بحاقد عليه". وهناك في المقابل، من يتفرّج على ما يحدث، عاجزاً عن إيجاد حلول للأزمة. هؤلاء ليسوا كلّ اللبنانيين بل شريحة منهم. والأصدقاء الذين لم يفوّتوا فرصة لإدانة السلوك العنصري للبعض، ولم يغلقوا يوماً أبواب بيوتهم وقلوبهم في وجوه السوريين، أيضاً ليسوا كلّ اللبنانيين. إذ لا وجود للكلّ. لا هنا ولا هناك. لا كلّ السوريين ولا كلّ اللبنانيين.

في المساء، بعد أن تغلق أبواب المكاتب والبنوك والمؤسسات، تبدو بيروت صغيرة، صغيرة، وهشّة. بحيث يصعب الفهم كيف لمدينة نحيلة إلى هذا الحد، أن تستوعب كل هذا العدد من السوريين. نصف عدد السوريين الذين هربوا إلى لبنان، موجود في بيروت، بين جفنيها، تغمض عينيها بعد منتصف الليل، لتطمئن إلى عودتهم سالمين إلى "بيوتهم". ذلك المساء، ثمة جندي لبناني لم يعد إلى بيته، أعدمته "جبهة النصرة". ذلك المساء، ثمة سوري عاد إلى "بيته" مكسوراً بعدما تعرّض لضرب همجي رداً على ما يحدث. وسوري آخر، لاجئ، ممّن نسينا وجودهم، كان يتلوّى تحت قدمي جندي لبناني، اختار أن يدعسه ليفرّغ كراهيته وغضبه. اللاجئ يتلوّى ممدداً على الأرض بقدم واحدة، لا نعرف أين فقد قدمه الأخرى، ربما لا تزال في بيته في سوريا. ذلك المساء، بات كل مساء تقريباً. الطرفان يتعرضان للضرب والإهانة والقتل. وثمة من يجلس في المقهى، يتابع مستجدات تلك الحروب، ويلعن العنصرية.
  
increase حجم الخط decrease