الخميس 2014/04/10

آخر تحديث: 00:15 (بيروت)

السماء فوق دمشق

الخميس 2014/04/10
increase حجم الخط decrease
 حين حلّقت الطائرة في سماء دمشق، نظرت إليها وبكيت. لم أكن أعرف أنني أحبّ دمشق إلى هذا الحدّ.. تذكّرت المرة الأولى التي جئت إليها بصحبة أبي وأمي ولم نجد فندقاً يأوينا. وكلّما نظر عامل الفندق إلى الورقة الحمراء الخاصة بأجانب سوريا قال: لا بدّ من موافقة الأمن السياسي أو الأمن الجنائي في "باب مصلّى"، مررنا على كل فنادق "المرجة". من "المرجة" وحتى "باب مصلّى"، كنت أسير ويدي في يد أبي. أمي تسير خلفنا بهدوء. 
مطر خفيف يغسل أشجار الصنوبر والكينا في الشوارع، أنظر إلى أضواء بعيدة فوق جبل قاسيون وألتصق بأبي كلّما مرّت سيارة مسرعة. حين تتعب أمي تجلس على الرصيف ويشعل أبي لفافته، نرتاح قليلاً ثم نمضي في طريقنا نحو "باب مصلّى". 
 
عدنا دون موافقة. قال المساعد: رئيس القسم غير موجود ولا نستطيع أن نعطي موافقة دون توقيعه. ثم عاد إلى شرب الشاي ولعب الورق مع عناصر القسم. نمت في حضن أبي قرب محلّ مغلق. استيقظت (كان أبي نائماً، وأمي نائمة قربه) على صوت صاحب المحلّ الذي كاد أن يبكي. أنتم من الجزيرة؟ نعم. ونمتم في الشارع؟ يردّ أبي مبتسماً: نحن من القامشلي، زوجتي مريضة تعاني من آلام شديدة في المعدة، سنذهب إلى عيادة الدكتور علي سعدة إن شاء الله. 
 
كانت الشمس وهي تشرق على دمشق رائعة. ولا يمكن وصفها أبداً. بعد ذلك بسنوات حصل أبي على الجنسية السورية، وصار ينظر بسعادة إلى بطاقته الشخصية ودفتر العائلة ودفتر خدمة العلم التي أعفي منها لأنه وحيد. أصبحنا سوريين، ونظر إلى أمي: سآخذك إلى الشام يا أم مروان بعد الموسم وسننام في أحسن فندق، لم نعد نحتاج إلى موافقة الشرطة. 
 
زيارتي الثانية كانت في أواخر الثمانينات للتقدّم إلى المفاضلة العامة. حجزت غرفة في فندق "رضوان" في المرجة. صاحب الفندق كردي يتحدّث مثلنا وأغلب نزلاء الفندق من أكراد الجزيرة. في الليل أعدت اكتشاف ليل دمشق، كنت أسير حتى أتعب ثم أعود مشياً على الأقدام إلى المرجة حيث المقاهي والمطاعم الرخيصة. رائحة الشواء تملأ المكان وتختلط مع رائحة الأراكيل وعرق العمّال في ليالي الصيف القصيرة، حيث الأكراد والعرب من أبناء الجزيرة الذين يأتون إلى دمشق لزيارة طبيب أو للبحث عن عمل بعد سنوات من الجفاف لم نسمع خلالها هدير محرّك حصّادة واحدة. 
 
تكرّرت زياراتي إلى دمشق لأسباب كثيرة. منها مرافقة أخي الصغير خلال التحاقه بدورة الاغرار، أو زيارة جدّي نايفكو الذي تطوّع في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو ترجمة بعض الوثائق وتصديقها من وزارة الخارجية. لكن أهم زيارة بالنسبة لي إلى دمشق، كانت دون أسباب سوى حب دمشق. من السماء تبدو دمشق جميلة جداً. أرى قاسيون بوضوح، أرى بردى، أرى الجامع الأموي، أرى الغوطة شجرة، شجرة. أرى دمّر وركن الدين والشوارع التي مشيت فيها. أرى جامعة دمشق وباب توما وترتفع الطائرة.. أرى نواعير حماة وجامع خالد ابن الوليد في حمص. أرى قلعة حصن الأكراد وحلب. أرى درعا وجبل العرب في السويداء. أرى إدلب. أرى الرقّة والجسر المعلّق في دير الزور واللاذقية وبحرها وجزيرة أرواد في طرطوس. أرى تدمر والحسكة وقامشلوكي (القامشلي ). فقط تماثيل الطاغية، تصبح نقاطاً سوداء. لاتزال حقيبتي الصغيرة التي غادرت بها جاهزة، تركتها كما هي كي أعود مع ميرا وميريام ومينا وملك.. لنرى سوريا ثانية من السماء بعد أن أصبحت أجمل .
 
increase حجم الخط decrease