لم يحن دور التاريخ في رواية ما انقضى، موعد سقوطه في معمعة الأزمة السورية لم يأت بعد. لا يحمل المؤرخ السلاح، وإذا كان من أداة يحارب بها فهي التاريخ، لكن عليه الاستعانة بمشرط ، ليدخل إلى مشهد بالغ التعقيد، بلغ من الفوضى والتخبّط حداً جعله عصياً على التشريح والسبر، أغلب عناصره غائبة أو مغيبة، تجري في الخفاء. الأطراف الدوليون لم ينكشف أسباب انخراطهم أو تراجعاتهم، وأحجام أدوارهم في اللعبة السورية، كذلك نصيبهم في الجرائم المرتكبة... اللوحة الكاملة، أو القسم الأكبر منها، يستحيل الاطّلاع عليه أو معرفته، يمكن تكهن جزئياته، أو الفتات منه. إذاً على الرواية الكبرى للحدث السوري الانتظار طويلاً، ريثما تظهر بعض جوانب خفاياها، لا كلها. أن يصل المؤرخ إلى ما يضعه على بداية الطريق، ليس ميؤوساً منه، لكنه طويل ومعتّم عليه، لا بدّ من المراجع والوثائق والخيال لتساعده على ترميم رواية ما عن حرب كان من الممكن ألا تكون، خيّبت جميع التوقعات، وخذلت المشاركين فيها، وأفلتت من حساباتهم، إذ للحرب عقل إجرامي يأخذها إلى اللاعقل الجمعي، الجريمة لا حدود لها، لاسيما إذا كانت صراعاً على السلطة، تساندها دعاوى حماية الاقليات، والغيبيات المقدسة.
قلما حرب بلغت هذا المبلغ من العتو والصلف والجنون في القتل، أصبح الترويض بالإذلال، والرضوخ بالقصف والبراميل المتفجرة، والإخضاع بالتعذيب حتى الموت، والتشريد بالتدمير، والتنكيل بالاغتصاب. الفاعل ليس العدو الغريب، بل الأخ والجار والصديق، كانوا معاً فيما مضى المواطنين الشرفاء. الصدمة انكشاف الغشاوة عن حقائق صارخة، وتكشف الوطن عن مواطنين أعداء، لا يتورّعون عن ذبح بعضهم بعضاً، دون أدنى قدر من الشعور بالذنب، تظهر في الإشادة بالقنص، والفخر بانتهاكات همجية، والمجد في بطولات المجازر.
ليس أنه ينقصنا الثقافة أو التحضر، تلك قشرة لا تعدو أكثر من رداء هش، سرعان ما يتهتّك، حصار الجوع يحيل الإنسان إلى درك أسوأ من سكان الكهوف، فيقتات بالأعشاب والقطط. وفصم اللحمة الوطنية يتحقق بغزو الأحياء ونهب البيوت. ما ينقصنا هو الإحساس الإنساني البسيط، بألا نؤذي إنساناً مثلنا، لكن ما دمنا لا نحسّ بإنسانيتنا، فلن نحسّ بإنسانية الآخر، الوحش في داخلنا، يحيل الآخر إلى مثيل لنا.
بوسع التاريخ أن ينتظر زمناً يعدّ بالسنوات والقرون، أما البشر فأعمارهم قصيرة. لدى التاريخ في المستقبل الكثير مما يكتبه، بوسعه رثاء الضحايا، وبوسعه القول كم أن الحرية مكلفة، وبوسعه انتقاد حرب طالت بلا جدوى، ويلوم كل من شارك فيها، ويسخط على المجتمع الدولي، ويلعن مجلس الأمن. وبوسعه أيضاً ممارسة التأمّل، ويسخر من طموحات لم تكن إلا القدرة على نشر الموت والدمار، وبوسعه أيضاً إدانة الأشرار ووصمهم بأوسخ النعوت.
ليس أن للتاريخ حساباته الخاصة، ما دام للبشر النصيب الأكبر فيها، فالتاريخ لا يختلق، بقدر ما يستنطق الأحداث. ومهما بلغ من الحقيقة، فهو لا يعيد الحق إلى أصحابه، ولا يكفكف دموع المنكوبين، أو يواسي آلام المصابين. التاريخ للمستقبل، لهؤلاء الذين قد لا يهتمون به، ولا يأسفون على عدالة لم تأخذ مجراها، ولا على أحكام لا تعيد للمظلومين ولو نزراً يسيراً مما فقدوه.
فلندع التاريخ، لا يضيره الانتظار، وليتولّى البشر، بشر هذه السنوات المؤلمة، النظر في حياتهم وموتهم ، والتفكير كيف يصلحون أحوالهم،
ويدبرون شؤونهم اليومية، الخبز والادام، ومكان ينامون فيه، وما يلتحفون به، كيف يتقون البرد والحرّ... وليشيحوا بأبصارهم عن العالم، لا يرتجون منه شيئاً. ثلاث سنوات وهم يتفرّجون على موت السوريين، ويختلقون المعاذير والحجج، بينما منجل الموت يحصدهم بلا رحمة، ترى كم يحقد علينا هذا العالم، هذه هي الروابط الإنسانية التي تربطنا به؟ كم هي عميقة ووثيقة. العالم لا يجهلنا، يعرف أننا لا نستحق الموت، ومع ذلك يضن علينا بالحياة.