الأربعاء 2014/01/15

آخر تحديث: 02:57 (بيروت)

زيارة إلى متحف البراءة

الأربعاء 2014/01/15
زيارة إلى متحف البراءة
أشياء الرواية
increase حجم الخط decrease
عند مدخل المتحف الكائن في شارع كوكوركوما في منطقة بيوغلو في اسطنبول، يستقبلك موظف التذاكر. يسألك إن كنت تملك نسخة من رواية "متحف البراءة" لأورهان باموق. تعطيها له، يفتحها على صفحة من الفصل الثالث والثمانين، المعنون: "سعادة". 
 
"هؤلاء الذين يعرفون قصتي مع فوسون سيتذكرونها بالتأكيد وهم يمشون هذه الشوارع ويرون هذه الفرص، تماماً كما أفعل أنا كل يوم. دع هؤلاء الذين قرأوا الكتاب يستمتعون بالدخول المجاني للمتحف حينما يزورونه للمرة الأولى. الطريقة الفضلى لتحقيق ذلك هي بوضع تذكرة دخول في كل نسخة من الكتاب. سيكون لمتحف البراءة طابع خاص، وعندما يقدّم الزوار نسخهم من الكتاب، سيقوم  الحارس عند الباب بختم هذه البطاقة قبل إدخالهم"... "وأين نضع هذه التذكرة؟".. "يجب أن توضع هنا طبعاً!".
 
يختم الموظف التذكرة المرسومة في الفصل، وتدخُل. تتّجه إلى ركن الاستقبال لتحصل على دليلك الصوتي وتباشر زيارتك.
 
البداية على الحائط مع "مانيفستو متواضع عن المتاحف"، نصّ كتبه باموق نفسه ووقعه ونشره سابقاً في الصحف. فيه، يشرح الروائي التركي فلسفة المتحف الذي أقامه، ورأيه في المتاحف عامة. هناك متاحف كبيرة ومكلفة عن الملاحم والآثار والتاريخ والأمم والمجموعات والفرق. الناقص، بحسب باموق، متاحف صغيرة غير باهظة، حميمية، تحتضن الرواية وطرق التعبير وتقصّ قصص الأفراد والمنازل. في تسع نقاط، يفنّد الروائي رؤيته عن متحفه الذي يريده محتضناً للسرديات المخبوءة والمختلفة بحسب استقبال غير زائر له. 
 
من هنا، من هذا المانفيستو، يبدأ الزائر زيارته للمتحف بجدارية تحوي عرضاً لـ ٤٢١٣ عقب سيجارة متخيّلة دخنتها بطلة الرواية "فوسون" خلال ثماني سنوات، وسرقها منها حبيبها "كمال" وحفظها، بحسب تاريخ اليوم الذي دُخِّنَت فيه، مدوّناً مع كل عقب وصفه لإحساس حبيبته عندما أشعلت السيجارة. هذه الجدارية تمثل الفصل الـ ٦٨ من الرواية التي تحتوي على ٨٣ فصلاً وتروي قصة الحبيبين ومعهما تفاصيل وصفية لمدينة اسطنبول منذ منتصف الخمسينات من القرن العشرين وحتى بداية الألفية الثالثة. 

OrhanPamuk_MuseumofInnocence-(1).jpg
 سجائر "فوسون"
 
الصعود إلى الطابق الأول سيعيد الزائر من جديد إلى الفصل الأول من الرواية: "اللحظة الأجمل من حياتي"، والجملة الأولى: "كانت اللحظة الأجمل في حياتي رغم أني لم أكن أعرف ذلك". ثم تتتابع العلب المرقّمة، من الرقم ١ حتى الرقم ٨٣. كل علبة تمثّل الفصل الروائي الذي يحمل رقم العلبة نفسها. 
 
في العلب أشياء جمعها باموق في الواقع، تزامناً مع جعله "كمال" يسرقها من حبيبته "فوسون" في الرواية، ليُخلَق دمج مثير بين ما هو حقيقي وما هو خيالي. وفي السمّاعات، يتيح الدليل الصوتي للزائر أصواتاً وموسيقى من المدينة، وقراءات من فصول الرواية، وشروحات من باموق حول كيفية تحضيره للعلبة المعروضة. بعض العلب يحتوي على فيديوهات من الزمن الذي يتطرّق إليه الفصل. وبعضها الآخر معروض بستائر حمراء مسدلة، وعن هذه يشرح باموق في الدليل الصوتي عدم اقتناعه بَعد بالكيفية التي يجب أن تكون عليها هذه العلب/الفصول. هناك أيضاً علب بستائر نصف مفتوحة لأن باموق لم يجد بعد الأشياء التي يتصوّر باموق أن عليه عرضها في العلبة، أو لأنه  ليس واثقاً بعد من الشكل النهائي للعلبة. 
 
هكذا، يُشرِك باموق الزائر في تفاصيل صناعته  لمتحف روايته. يُعلمه كيف جمع هذه الأشياء، يحدّثه عن كمال العاشق، الذي سكن هذا البيت، تخيّلاً، من العام ٢٠٠٠ وحتى العام ٢٠٠٧، وعن التواطؤ الذي نشأ بينه وبين شخصيته في اللقاءات المفترضة المتتالية بينهما بالتوازي مع كتابته للرواية. ويفصح الروائي عن توجّسه من عرض صورة مفترضة لوجه فوسون،  قبل أن يتراجع عن هذه الفكرة، ويترك صورة وحيدة لها تظهر قوامها من بُعد، ولا يمكن تبيّن تفاصيل الوجه فيها. 

09-Photo-27-04-2012-06-30-22-e1336154769241.jpg
 
يتحدث باموق عن الهاجس الأساسي الذي رافقه منذ بدء العمل على المتحف: الخوف من تشييء الخيال الروائي، وإمكانية تهشيم العوالم  المختلفة التي يخلقها القرّاء وحصرها في عالم وحيد. لكنّ الروائي التركي سرعان ما يحسم هذا النقاش في الدليل الصوتي. فالمتحف لا يستهدف فقط طائفة قرّاء الرواية. هو يريد حتى لمن لم يقرأ الكتاب بعد، أن تحثه الأشياء المعروضة على القراءة. أما هؤلاء الذين قرأوا الكتاب من قبل، فالرهان أن تعيد الأشياء المعروضة لهم الأحاسيس التي شعروا بها عندما قرأوا الفصول، بل أن تكسب الأشياء في طرق عرضها في العلب الفصول، معاني جديدة، فتكون مدخلًا لقراءة ثانية يتلوّن فيها السّرد من جديد بقراءة تختلف عن سابقتها.

الأشياء المعروضة تتخطّى في أكثر من علبة تفاصيل قصة العشق بين كمال وفوسون، لترسم صورة لاسطنبول منذ الخمسينات وحتى بداية الألفية. العرض برمته محاولة لتخليد اللحظات على حساب المعاني التي تكتسبها بتراكمها. هو محاولة للحفاظ على استقلالية اللحظات عن الخط الزمني الذي تقع عليه. هذا جليّ في المقتطف الروائي المطبوع على حائط الطابق الثاني من المتحف: "علّمتني الحياة أن تذكّر الزمن، ذلك الخط الذي يصل بين كل اللحظات التي سمّاها أرسطو الحاضر، شيء مؤلم إلى حدّ ما لمعظمنا. ورغم ذلك، فإننا لو استطعنا أن نتعلم التوقف عن رؤية الحياة على خط أرسطو الزمني، وأن نعتزّ عوضاً عن ذلك بأوقاتنا  لعمق لحظاتها، فإن البقاء لثماني سنوات بالقرب من طاولة عشاء الحبيبة، لن يبدو عندها غريباً ومثيراً للضحك. على العكس، هذه المغازلة تدلّ على ١٥٩٣ من الليالي السعيدة بالقرب من فوسون".
 
museum-of-innocence-6-(1).jpg
 
الإثارة التخييلية هذه تبلغ أوجها في الطابق الثالث والأخير من المتحف حيث يستطيع الزائر الجلوس على مقعد والتحديق بالسرير المفترض لكمال، والنظر إلى أشيائه الموضوعة على المنضدة القريبة. هنا يعلمنا باموق أنه أمضى بعض الليالي التعبة على هذا السرير أثناء إنشاء المتحف. وبالقرب من المقعد، على الحائط، واجهة زجاحية تعرض مخطوطات لفصول وجدت أو لم تجد طريقها للنسخة الأخيرة من الرواية، بخطّ يد باموق ومؤرخة بتاريخ ومكان كتابتها. وهكذا يشيِّء الروائي كتابته نفسها، ويدخل شريكاً في قصة كمال وفوسون المتخيّلة، متيحاً للزائر التمعّن في بعض نواقص وأسرار نصّه قبل الناتج الأخير المنشور.
 
بعد الزيارة، تصير النقطة التاسعة من المانيفستو المعروض في الطابق الأرضي من المتحف، تشمل الزائر نفسه: "مستقبل المتاحف كامن داخل منازلنا"، تقول. وفي المنازل أشياؤنا. بينها وبها ومعها، نحيا. يحدث ذلك كله قبل أن نتحوّل بدورنا، بعد الرحيل، إلى محض أشياء في سرديات الآخرين. نتحول جزءاً من خيط الذاكرة الذي يربط كل شيء. خيط  ينحني ويستقيم، تثار أشياؤه وتفتر، فيتلوّن بتغير المتذكّر، لنصير عناصر مستقلة ومراكِمة في آن، في أكثر من سردية، وننتهي أكثر من أحد.

143464400.jpg
 
increase حجم الخط decrease