الجمعة 2013/08/30

آخر تحديث: 09:36 (بيروت)

مسرحية "ما بتقطع"!

الجمعة 2013/08/30
مسرحية "ما بتقطع"!
من صفحة "مارش" في "فايسبوك"
increase حجم الخط decrease
لم يتحمَل مكتب الرقابة مسرحية "بتقطع أو ما بتقطع؟". وجد أنها عبارة عن "مسخرة"، وليست عملاً فنياً. بالتالي، أخذ قراره القاطع وأبلغه الجمعة للمعنيين بالعمل: المسرحية "ما بتقطع"، ولا حاجة إلى إيضاح السبب. لقد غضب الأمن العام اللبناني من عمل فني، هاج وسخط على الكاتب والمخرج لوسيان بورجيلي، وعلى الجهة المنتجة أي جمعية "مارش". فلا يحق لأي كان أن يتناول الرقابة كموضوع فني، ويسخر من معاييرها وقوانينها، التي لا يمكن تحديدها البتة. ففي كل مرة، يمنع الأمن العام مسرحية أو كتاب بحجّة مختلفة. أما اليوم، فقد رأى أن مسرحية بورجيلي تستهزئ به، ومن مهمامه الرسمية!
إذاً، بورجيلي و"مارش" يهددان مكاتب الأمن العام، ويزرعان عبوات الفن داخلها، لذا، من الضروري القبض على مسرحيتهم، ومنع عرضها.
وتتمحور المسرحية (وهنا إعلانها الترويجي على "يوتيوب") حول علاقة الرقابة بالأعمال الفنية. إذ يقدم كريم سلوم، وهو أحد كتّاب السيناريو، قصة فيلم جديد، عن هجرة الشباب من لبنان. يعرضها على الأمن العام، فيرفضها، بسبب "الإساءات" التي تحتويها في حق السياسيين ورجال الدين إلخ. إلا أن سلوم "يحرك" واسطته، فيؤدي ذلك إلى تراجع الرقابة عن منع السيناريو. أما "جاندارك"، فهي ممثلة لبنانية-فرنسية، جاءت إلى لبنان كي تعرضها عملها المسرحي، الذي يتناول موضوع المرأة والمجتمع الشرقي. تقدم مسرحيتها للأمن العام، فيرفضها كالعادة، بحجة احتوائها مشاهد عُري. وجاندارك بلا "واسطة"، لذلك، "ما بتقطع" مسرحيتها، وتبقى أسيرة الرقابة.

وتُضاف إلى الشخصيتين السابقتين، كريم وجاندارك، شخصية ثالثة، وهي نهى حداد شديد، التي تعمل صحافية في مجلة "شمس"، والتي لا تتوقف عن الكتابة في نقد المديرية العامة للأمن العام، حيث يعمل زوجها، "الكابيتان"، المسؤول عن رفض وقبول الأعمال الفنية. الأمر، الذي يؤدي إلى الكثير من التشنجات بين الشريكين، إلى أن توضع  نهى أمام خيارين: إما حريتها المهنية، أو علاقتها الزوجية. ذاك أن الرقابة لا تتدخل في علاقاتنا العامة فقط، بل الخاصة أيضاً، ساعية ً إلى تحديد مساراتها على جميع المستويات.

وبالفعل، تدخلت الرقابة هذه المرة لمنع مسرحية "بتقطع أو ما بتقطع؟". وحول هذا التدخل المانع، يقول لوسيان بورجيلي للـ"المدن" أنه كان قد قدم النص إلى الأمن العام اللبناني في 17 تموز/يوليو الماضي، غير أن الأخير تأخر في الإجابة، ولم يبلغه بها إلا بعد الكثير من المماطلة. يومها، ذهب بورجيلي، بصحبة ليا بارودي، العضو المؤسس في جمعية "مارش"، إلى مكتب الرقابة، حيث اجتمعا بالمسؤول الرسمي، الذي قال لهما أن المسرحية مجرد "مسخرة"، متهماً الكاتب بالتهكم على الأمن العام، وعلى مسؤولياته وقوانينه.

وفي هذا السياق، يسأل بورجيلي عن تلك المعايير التي يعتمدها الأمن في تعامله مع الأعمال الفنية: "كيف يسمحون بعرض مشاهد العنف والقتل على التلفزيون، لكنهم، يمنعون المسرحيات الناقدة؟ ثم لماذا يتكفل الأمن بالرقابة على الفن، في حين أن دوره الصحيح هو حماية أمن المواطنين ومكافحة السرقات والتفجيرات، التي تهدد المجتمع فعلاً؟ أليس من الأفضل تحويل مكتب الرقابة إلى مكتب مدني، يضع التصنيفات العمرية للمسرحيات، ولا يمنعها؟". بمعنى آخر، من الممكن أن يتولى هذا المكتب المدني مهمة تصنيف العمر المناسب لجمهور المسرحية، وعلى هذا الأساس يجري عرضها، وبالتالي، لا يتدخل في منعها أو قبولها.

في كل حال، يؤكد بورجيلي أن الأمن العام برقابته على النصوص والأعمال الفنية، يهدد الكتابة والفن في لبنان. فالكاتب لا يعود في مقدوره الكتابة من دون التفكير إن كان نصه "يقطع أو لا يطقع". والأمر نفسه، ينسحب على الفنانين في كافة المجالات. ويتذكر بورجيلي، في هذا الإطار، أن الأمن العام كان رفض إحدى مسرحياته القديمة، التي ترتكز إلى نص مسرحي كتبه أنطون تشيخوف العام 1860. فلو أن تشيخوف يعيش في لبنان لكانت مُنعت مسرحياته، ولما كان أصبح مؤلفاً عظيماً. في النتيجة، يطالب الأمن العام الكتاب أن يكتبوا من أجله، لا من أجل ذواتهم، أو للجمهور، وإلا لن "تقطع" كتاباتهم.

من ناحية أخرى، لا يمكن التكهن إن كانت الرقابة ستتراجع عن منعها المسرحية، خصوصاً أن رئيس مكتبها قرر منعها وفقاً لمعاييره المجهولة. من هنا، تقول ليا بارودي، العضو المؤسس في جمعية "مارش"، أن رئيس مكتب الرقابة احتج على بعض مشاهد المسرحية، معتبراً إياها منافية للواقع، فـ"هم في الأمن العام لا يتعاملون بطريقة غير لائقة مع الكتاب والفنانين، كما أنهم لا يمارسون سلطتهم عليهم". غير أن بارودي أكدت لرئيس المكتب أن المسرحية هي مجرد عمل فني، وليست أحداث "الواقع"، لذا من الممكن أن تحوي الكثير من المشاهد الفنية غير الواقعية. لكن، في النتيجة، منعت الرقابة "بتقطع وما بتقطع؟"، وعند الاستفهام عن معايير قرارها، قال رئيسها: "القانون يسمح لي أن أمنع ما أريد".

 ولم ينتهِ الإنتهاك عند هذا الحد. ذاك أن بورجيلي وبارودي طالبا بنسخة ورقية عن قرار المنع، الأمر الذي أثار استغراب مكتب الرقابة، الذي طلب منهما الإنتظار عشرة أيام كي يحصلوا عليها. وتعتبر بارودي أن هذه المهلة تندرج في إطار المماطلة لا أكثر. لكن جمعية "مارش" تؤكد أنها لن تتنازل عن حقها في عرض المسرحية، مهما ماطلت مؤسسة الرقابة، لا سيما أنها جمعية تعنى بالإضاءة على شؤون الرقابة وعلاقتها بحرية الرأي والتعبير في لبنان. فهي، من خلال محاميها، وكادرها الإعلامي، ستواصل البحث في قضية "بتقطع أو ما بتقطع؟"، حتى لو أدى الأمر إلى اللجوء إلى القضاء.

هكذا، ومن دون الإستناد إلى قوانين واضحة، قرر الأمن العام اللبناني أن يمنع مسرحية لوسيان بورجيلي، بحجة أنها "مسخرة". إذ يبدو أن القانون الوحيد، الذي تلجأ إليه الرقابة في تعاملها مع الفن، هو تصنيفها إياه بين "مسخرة" أم لا.
لقد أصبح البلد مليئاً بالـ"مسخرات" فعلاً. وهو لن يفرغ منها إلا في حال إبعاد الأمن عن الفن، وتعطيل الرقابة.


increase حجم الخط decrease