الأحد 2013/05/12

آخر تحديث: 00:31 (بيروت)

سلوى النعيمي: الكتابة بعين الاختزال

الأحد 2013/05/12
سلوى النعيمي: الكتابة بعين الاختزال
increase حجم الخط decrease
 في روايتها "شبه الجزيرة العربية" (دار رياض الريس)، تعتمد سلوى النعيمي الاختزال كمفتاح سري لبناء قطعها السردية. والاختزال لا ينسحب فقط على الآلية التي تكتب فيها النعيمي نصها، بل يذهب كذلك ليطرح نفسه، هيكلاً للمضمون، ولكل فكرة مطروحة، وكل عاطفة ملاحَقَةٍ وذكرى. إنها رواية مفرغة من التفاصيل، محافظة فقط على الخطوط العريضة التي ألفت حياة الشخصية الأساس فيها، مستعيضة عن عرض الأحداث والاستفاضة فيها، بالتأمل في ماهية المسافة، المواطنة، الحب، الانتماء، التقاليد، التاريخ، وحتى المشاهدات العابرة والقليلة جداً، ونزعم أنها موجودة في العمل عن عمد. وفق هذا "المخطط" إذا صحّ التعبير، تقدم النعيمي نموذجاً روائياً غير معهود، يدير ظهره لأنماط الكتابة الروائية السائدة، مشتغلاً في مفهوم مغاير في معالجة المادة. 

تعمدت سلوى النعيمي في روايتها أن تحتك الشخصية الأساسية بوالدين يحمل كل منهما ديانة مختلفة عن الآخر، ويرمزان إلى ثقافتين مختلفين إيديولوجياً إلى حد ما، ومتشابهين في نظاميهما الاجتماعي إلى حد بعيد، وإن اختلفا في الرؤيا السياسية. هذان المكونان، يتصلان بحياة الشخصية من خلال تجذرهما في بيت على شكل نواقض لا تفرض فرضاً بقدر ما تترك آثارها العميقة على المرأة التي ترفض كلاهما وتهاجر. تتكون بذلك مسوغات موقف المرأة التي تحمل وعياً مختلفاً وتتخذ خيارات قاسية. تمتثل للظرف الطارئ (موت الصديق، العاشق، ثم الزوج، وعودة الابنة المؤقتة مدفوعة تارة بواجبات مهنية وطوراً بمرض والدتها)، إلا أنها ترفض أكثر الانصياع لوطن "مُعدّل" بأحسن الأحوال إن لم يكن ممسوخاً.
 
الرواية تبدو وكأنها خلاصةُ خلاصاتٍ متتالية، أو الجوهر الأخير، البرّاق والغريب، والمتروك لنا – قرّاء- كي نكتشف مركَّبَه الكيميائي أدبياً ومفاهيمياً. لا شيء منتهياً على الإطلاق ولا شيء يقينياً تماماً. ثمة امرأة اضطرت لترك وطنها الأم (سوريا) كخيار شخصي، استباقي، وسياسي. هي غير متناغمة مع أعراف تمتد على اتساع جغرافي هائل، وتفاضل على أساس جيني، وتكيل اللغة والسلطة لصالح الرجل. هذه الخطوط العريضة للرواية قد تبدو للوهلة الأولى، متشابهة إن لم يكن متطابقة مع خطوط عريضة لروايات أخرى. غير أن النعيمي تقدّم ضمن هذا المعطى المشترك، كيفية مختلفة تماماً إن لم تكن جديدة، لبسط سلطة جمالية، أسلوبياً، حسياً وعاطفياً، من دون الانجرار إلى استهلاك الذات، أو التعلق بمناخ بكائي، أو مانيفستو نسوي، أو حتى سياسي. أي أنها تلجأ إلى الروابط الأساس، لتساؤلها وتُمَحِّص في جدواها وتضعها أمام الخيارات الشخصية للكائن/ المرأة تحديداً.
 
تتحرك النعيمي خارج مفهوم العلاقة "التقليدية" التي تربط بين الكاتب أولاً، والحدث بمغرياته الدرامية و"الفجائية" دوماً ثانياً (السوري اليوم، العراقي بالأمس القريب، والفلسطيني قبلاً)، والمحصلة المطلوبة سلفاً (كموقف إنساني وإعلان أخلاقي وعامل أساسي وشَرطي لترويج العمل المكتوب). فهي لن تستند إلى مادة بصرية عامة ولا إلى وثيقة تاريخية "مشوِّقة" أو صحافية ولا أيِّ نوعٍ من المرجعيات النهائية الملامح. وكل ما سيصب في بيوغرافيا الرواية ستكون جذوره شخصية جداً ومُغَبَّشة عن عمد، وموجَّهةٍ إلى مساءلة عقلانية متنبِّهة. وبهذا سيكون من المجحف وضع الرواية في سلّة النتاج الأدبي الذي تخلّفه السياسة. 
 
يمكن اعتبار "شبه الجزيرة العربية" نصاً مزيجاً من مسارات "درامية" متداخلة أو متلامسة، خافتة ومنطوية على ذات الشخصية الرئيسة، ومحيطها. وللوهلة الأولى، ينجح كل مسار بحد عينه في الانتهاء بين نقطتين، كأنه قصة مجتزأة من حياة ما. غير أن هذه القصص ومن ثم الحيوات تشترك في عدم وجود مرجعية زمنية لها (رغم المرجعية السياسية التي نستنتجها). أسلوب النعيمي وإن لم ينضوِ مباشرة على نبرة احتجاجية، فإنه يحيلنا على إيحاء باحتجاج يتراكم تدريجياً عبر القراءة، على كل كتابة بكائية أو ناعبة بدون أي غطاء جمالي أو اعتناء لغوي كلما حدث أن الموضوع هو "الوطن". أما اجتهادها في قصّ الجمل واقتطاع نهايات بعضها، والخروج بمنتج كتابي مغمّس بالإيحاءات، وإيصال هذه الإيحاءات إلى وعي القارئ (كإنهاء الجملة مثلاً بحروف النصب)، مزايا تلزم هذا القارئ بواجب أدبي، محوّلة إياه من متلق ذاعن لموقف وأحكام الكاتب بالمطلق، إلى كينونة مكملة لصوت الكاتب نفسه، تتناغم معه أسلوبياً وجمالياً وليس سياسياً فحسب.  
increase حجم الخط decrease