السبت 2013/04/20

آخر تحديث: 08:42 (بيروت)

رشيد الضعيف.. ترتيب المجهول والمتجاهل

السبت 2013/04/20
increase حجم الخط decrease
 "ناحية البراءة" لرشيد الضعيف، والتي صدرت طبعتها الثانية عن دار الساقي، أشبه ما يكون بورشة كتابية هدفها تصفية حساب قديم مع اللغة الروائية وأشكال العبارة المتعارف عليها وأساليب السرد المعهودة أو "المتوقعة". هي ليست العمل الوحيد الذي تشتمل عليه مسارات رشيد الضعيف وخياراته السردية، وإنما تقدِّم لنا نموذجاً آخر يحاكي طموح الكاتب في الخروج إلى القارئ بنبرة روائية تحمل من السلاسة الخادعة والجملة الهيِّنة، ما تحمله من المنهج الانساني والأسئلة الفلسفية التي تصب في يوميات كائن القرن الواحد والعشرين. 
الروائي اللبناني الذي رسم صورة مغايرة في الأدب الروائي الحديث بخروجه في قالب لا يتقاطع مع مجايليه، يشتمل عمله على استفزازات فكرية وتقنية حول مسألة اللغة. وهو يصوِّب سهامه بهدف تكسير المألوف والمتوارث أولاً، وإعادة بنائه بصورة جديدة، الامر الذي يفاجئ، ويدس في قلب عملية القراءة أسئلة حول الأسلوب الرشيق، والجملة التي تنطُّ إلى المعنى كأنها شريط مطاطي. 
يتعمد في "ناحية البراءة" تخليص المقاطع من المجاز الثقيل، كأنه يروي مجاوراً ثقافته ومعرفته العامة، ومبتعداً عن الثقالات المعجمية.  لذلك، فإن روايته، والتي تشاكس بقدر ما تشلح عنها ترسبات قاموسية وصورية، هي رواية الحالة، وهي دينامو انسحاب الكائن إلى بانوراما التفاصيل. فالتفاصيل في العمل تشكّل سلة تندلق على بطله، تغرقه وتلتصق به من جميع الجهات. 
الرواية تتحدّث عن شخص يحقق معه بسبب تَمَزُّقِ صورة على حائط. مقابل هذا الحدث اليومي "غير المدوِّي" اجتماعياً، فإن الصورة الممزقة، والمجهولة، تبقى حيث هي، ثابتة في خلفية العمل، بينما تُمزَّقُ حياة الشخص المحقق معه شيئاً فشيئاً طوال مراحل الرواية. ثمة واقع ونتيجة محصّلة عنه. الواقع يحضر بصيغة فعل مجهول (تمزيق الصورة) وصورة أيضاً مجهولة، أيٌّ منهما لا يتطور بل ينتهي عند حده هذا، يُجمّد بصيغة الحاضر ويُفعّل عند الضرورة، إنه جاهز لبث كل تبعاته المخيفة على الحياة. أما النتيجة المحصلة عنه، فهي نتيجة غير ثابتة، ولانهائية، متحولة باستمرار ومتطورة، سلسلة من الإنهيارات التي تفتت الشخص، وتمحو معالم صورته ليصبح بدوره "مجهولاً". 
ومن خلال هذا التطور للأحداث، التي هي مجرد تداعيات نفسية، لا ميكانيكية، يقدم الضعيف لنا بطلاً متوتراً، يتخبط بين محاولة الحفاظ على تعقله أو الانقياد لمشاعره المشوشة. وتعمل اللغة عملها في تضخيم هذا التوتر، وتحسسه من كل الزوايا، ومن ثم توسعه، وتثبته في السينوغرافيا المغلقة (غرفة تحقيق/ منزل)، التي تنعدم منافذها الفيزيائية (كالنافذة ومجاري الهواء).  
العمل يعج بالانتهاكات والالتباسات. فحاجة الانسان لضوء أو كوب ماء يمكن أن تصبح انتهاكاً لـ"مقدس" ما. وهذا التماس الطفيف مع التفاصيل وغير الملتفت إليه، والمتجَاوَز دوماً، هو ما يصبح بحشره في فضاء مغلق تماماً (غرفة تحقيق)، وقوة الظرف (انتظار وصول المحققين/ انتظار المحققين لإجابة)، تماساً ثقيلاً مع الأخطار وتهديداً يزيد من تقوقع المرء، ويولد تفاعلات نفسية تضرب العقل، وتحاول شل قدراته بالكامل. 
الرواية مونولوغ طويل، نكتشف فيه العوائق غير المرئية التي تحيط بنا والتي قد تتشكل وفقاً للظرف الطارئ أو المستعجل. يتحول تقسيم العالم بهذه الطريقة (تفاصيل/ حاجيات أساسية) إلى تقسيم واه، ويعاد خلط الحواجز البصرية بينها كما تلك اللامرئية. تتعطل الديناميكيا البشرية، وتغدو الحياة أبطأ، بانسحاب الشخص في ديالكتيك غير موضوعي مع الذات. ولعل لغة رشيد الضعيف الحاذقة والتي تستطلع الخفايا البسيكولوجية للنفس، وترسمها من خلال موقع الشخص (بالمعنى الميكانيكي) داخل الغرفة، هي ما ينجح بإقامة هذا التوازن بين اللغة كتقنية والموضوع كمستوعب أفكار. فكل شيء يتورط في تعذيب الكائن بالشك: عقب السيجارة، علبة السجائر، القداحة، الكهرباء، الستارة، النافذة، الأثاث المريح والفاخر، الموكيت، الكنبة، السكين، صوت الزوجة، أجوبتها. ما يدخل الشخصية في خضم مرافعة طارئة تستنبطها للخلاص، وتعرب نفسها من خلالها وتدلنا "غير قاصدة" على ماضيها ومؤثرات وعيها وموقفها من مسائل اجتماعية وعاطفية وقومية. 
غير أن هذين الاستفزاز والتوتر الأدبيين اللذين يفرضهما الضعيف، يتجاوزان موضوع الرواية ليصبحا استفزازاً وتوتراً تجريبيين مع القارئ نفسه (أو ضده). وهذا يتجلى في النهاية المفتوحة والمفاجئة والمجردة التي ترمى ككرة من الأسئلة في وجوهنا، وتتماهى مع حالة اللايقين التي يشدد عليها الكاتب. 
 
increase حجم الخط decrease