الخميس 2013/04/11

آخر تحديث: 06:44 (بيروت)

الطبيعة محترف الشعر الصعب

الخميس 2013/04/11
increase حجم الخط decrease
 إضافة إلى المكوّن الجمالي لنتاجه الشعري الجديد، فإن حسن العبد الله يضع أمام قارئه أرضيّةً جدلية، متحركة، تتعلق أولاً بكينونة الشعر نفسه والأبعاد اللغوية (هل يجوز فعلاً الحديث عنها؟) التي تحدّد ملمح النص المكتوب. يحفزنا نصُّه على استعادة أسئلة حول الشعر والنثر والسياقات اللغوية و"الأعراف" التي قد تحدّد نصّاً ما – وتقنياً - على أنه شعري، أو "غير شعري" (بمعنى ما هو ليس شعراً). حسن العبد الله معروف بميله إلى التخفف من البلاغات اللغوية وبتحوُّلِه عن مسارات وإطاحته بـ"قوانين" معجمية التزمها بعض شعراء التفعيلة وظلوا عالقين بها حتى يومنا هذا. أيضاً بكونه شاعراً منعزلاً ضمن محترفه الشعري الشخصي، الذي يستلّ عناصره من بيئته الخاصة، طبيعة الجنوب اللبناني، ومن هناك كل شيء يبدأ. 
قد يصح القول إن العبد الله شاعر جيله المشاغب. في كتابه الأخير "ظل الوردة" (دار الساقي)، يبدو وكأنه يُؤلف عجينته الشعرية ماشياً في بستانه الخاص، شاذاً عن أغلب الشعراء، مشائي المدن الكبيرة والأصوات الصادحة. قد يكون الخفوت أحد سمات قصيدته، وخلوّها من الارتجاجات اللغوية الكبيرة، أو الصوتية كذلك، وغوصها عوض ذلك تحت جلد القانون العام الذي يحدد موقع الشيء، صوته، لونه، جماده أو حركته، تفاعله مع شيء آخر، تغيّره، انسحابه إلى الداخل أو انفلاشه. والشيء الذي نعنيه هنا، هو أحد موجودات الطبيعة (أخرج من المنزل في أعلى التل/ فيباغتني الفضاء الرحب فوق السهل/ ويشدني إليه الأفق/ عندها، أفرد أجنحتي وأحلق/ لست طائراً، ولكن/ للضرورة أحكامها!). 
قاموس العبد الله الرومانطيقي هو من أصعب القواميس الشعرية التي يمكن الاشتغال بها، نظراً لاستهلاكها المتواصل على مر العصور سواء من قبل مئات الشعراء. والطبيعة، التي اختارها العبد الله، هي المحترف الأكثر صعوبة للحفر الشعري، والأكثر خطورة وتحدياً كذلك.    
تأتي قصيدته مبتعدة عن كل ما هو عاجل، طارئ، يومي ، مديني أو سياسي. ويبدو العبد الله شاعراً متمهلاً، يبطئ حركة الطبيعة والحياة وتاريخه الشخصي كذلك، بتحركه ضمن بيئة مثبّتة، معادة، ومستحضرة في قصائد عدة. وهي بيئة إما تعتمد على علاقة الشاعر بذاته والندوب المتبقية في هذه الذات من أثر العلاقات الإنسانية المختلفة، أو تعتمد على فسحة الشاعر في بستانه الخلفي (مجازاً)، الذي يتمشى ويتنفس ببطء شديد كمن لا يريد نفث الهواء قبل السماح لرئتيه بجس كل جزيء فيه، وكل ذرة. هنا يبدو دائراً ظهره للمدينة وأصواتها، ملتفتاً إلى نفسه، كمرجع شعري دبق، علق فيه الكثير من أشياء حياته، وأسرارها، مواقفها وصراخها المكتوم وغضبها المعقود بين حاجبيه، ومن ثم احتجاجها على شخوص وأشياء (..لكن/ في هذه الأمكنة، وبين هؤلاء الناس/ كيف يمكن لشاعر طبيعي/ أن يكون شاعراً طبيعياً) بما في ذلك كتلة الشعراء نفسها (لا شيء أخطر على الشعر/ من كتابته/ بلغة "شعرية"). 
يسمي نفسه "شاعر الشجر". وقد تكون الشجرة هي بيت المادي والميتافيزقي بالنسبة له، والمحورُ الوجودي المتخلى عنه، بجانب الطريق العام. غير أن اعادة انتاج مهمتها يرتبط بإعفائها من صوتها البيولوجي، وتحويلها إلى ورشة التأمل الخاصة بالعبد الله، أو استثمار المفردات المتعلقة بها للإبلاغ عن موقف انساني خاص بالشاعر. والعبدالله ينجح بإخراج أغلب نصوص المجموعة في صيغة الحكم النهائي الشعري على المشهد البصري، معدِّلاً إياه بما يتفق وخلاصته عن الحياة، الحب، الصداقات، الشعراء، الموت، الطبيعة. لكن اللغة تفلت منه في نصوص أخرى قليلة، التي تظهر أكثر قرباً إلى العبارة العادية وأقل ابهاراً.  
في "ظل الوردة"، يبدو العبد الله وكأنه يكتب تحت مستوى السطح البصري للأشياء، فلنقل يغوص كأنه في الطبقة الـ"ما تحت بصرية"، متفحصاً ما حظي بها في خلال سني حياته، محولاً إياها إلى علامات استرشاد، للخروج بأحكام نهائية، لدس إجابة أو استحضار عوامل سؤالٍ ما بدون طرحه (استيقظت هذا الصباح/ وقد فقدت موهبتي الأدبية/ وعلام آسف؟/ فقد آن لي أن أجرب/ متعة الإحساس بالأشياء/ من دون الإحساس بواجب التعبير عنها). من هنا، يتحتم على الشاعر المرور أولاً بالسطح البصري، ومن ثم تحويل القصدية الشعرية إلا مفارقة حاذقة، أو سياق يشذ تماماً عن أول المقطع الشعري، ويكسره باتجاهات جديدة في المعنى تُسجَّل للشاعر. من هنا، فإن جوهر ما هو جديد عند العبد الله يكمن في هدمه السياق المتوقع لدى القراء، وتوجيهه دفة القصيدة إلى عمق "حاد" يحفره الشاعر بالأصابع نفسها التي تلهينا بتحريكها لصورة شعرية "حساسة" أمام أعيننا.  
اللغة الخالية من الزخرفات والمترفعة في الوقت عينه عن المجاز المستهلك، والحانية على بئر الشعر الصغيرة والمجهولة القرار، هي أقرب في جملتها إلى الاعتراف بسَريانٍ سري للأيام، وهو ما يجعلها لغة تتملص كذلك من كل تصنيف سواء كان شعراً، نثراً أو تأملاً، وتشرّع الغاية الجمالية هدفاً حتى وإن جاء من باب السرد القصير، والخادع. من هنا، يتنافى الشعور بالشريط الشائك والفاصل بين ما هو "شعر" وما هو "تأمل" ربما باستثناء نصين أو ثلاثة أحكم الشاعر التفعيلة فيها وأحالها مباشرة إلى غنائية وبالتالي حصراً شعرياً غلب على أي طابع آخر تفكيكي أو تأمّلي. لكن غاية الشاعر في أن يتنقّل بين "صنفين" (شعر وتأمل) من المعالجة اللغوية لأشياء الحياة ومحفوظاتها، لم تظهر جلية في الكتاب، بسبب الميكانيزم الواحد الذي عمل الشاعر ضمنه على اختلاف موضوعات الكتاب السبعة (تحت شجرة الجوز، حلم الحياة، نحو السماء، حب من دون حب، مسرح الأشباح، تلك الحرب، الطيار الآلي). فكل ما يفد إلى رأس حسن العبد الله من الطبيعة، أو من الصداقات، أو من العلاقة بالشعر أو اليومي أو الحرب أو نهايات الكائن البشري، أو حتى الإيديولوجيات الكبرى والجدليات، يخضع لمنهج شعري لا يستطيع التفلّت منه، متجذر في لغة مطمورة تحت سنوات جافة، منسحبة اليوم على أوراقه نحو منطق آخر، جديد، "لامنطقي" للوهلة الاولى. 
 
increase حجم الخط decrease