الجمعة 2013/10/18

آخر تحديث: 05:23 (بيروت)

لا رثاء للبنان الصافي

الجمعة 2013/10/18
لا رثاء للبنان الصافي
صباح هي الصوت الوحيد الذي لم يبتلعه حضور الوديع في المحاورات
increase حجم الخط decrease

إلى المعلم جميل الياس، أكرم عشاق الصافي
ولد وديع الصافي بعد ولادة لبنان الكبير بعام واحد، وقد يكون رحل مع رحيل بلده أيضاً. اغترب أثناء الحرب وعاد مع آمال السلم، ومن ثم رحل نهائياً في اللحظة نفسها التي انتهت فيها حدود الوطن اللبناني إلى ان اصبحت لا اكثر من علامة رمزية تعبرها أفواج المقاتلين والسيارات المفخخة وعائلات اللاجئين الهاربين من القصف إلى التعسف والقهر.

لا داعي لرثاء وديع الصافي، إذ ستظل اغانيه بصوته وبأصوات تلامذة مدرسته (قد يكون معين شريف ونقولا الأسطى قبله أبرزهم الآن لكنهم ليسوا وحيدين). ما يجدر بنا فعله هو الحفاوة بمن تبقى من صانعي الحلم وصائغي الصوت اللبناني. الاحتفاء اليوم، في ذكرى وديع الصافي، بالباقيات ممن شاركوه المغامرة اللبنانية (بعدما غابت عنا نور الهدى، ووداد، وغاب الرحابنة وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وفيلمون وهبي).
 صباح أوّلهم من دون شك، وبتأكيد الصافي نفسه، ونجاح سلام، وفيروز.

والقول إنها مغامرة ليس فيه مبالغة، فإثر جيل من المتوزعين بين أنماط الغناء البدوي والشامي والمصري والتركي، ومحاولات سامي الصيداوي ونقولا المني وآل بيضا، قام جيل الصافي والرحابنة وزكي ناصيف وتوفيق الباشا، في عقد واحد من السنين، بابتكار غناء لبناني جديد أوكل إليه، بأمر رسمي من كميل شمعون، الدفاع عن اختلاف لبناني عن المحيط من خلال مهرجانات بعلبك. في هذا الإطار، كانت مساهمة وديع الصافي في الغناء الريفي، كما أسماه الأستاذ جميل الياس (فارابي المنتديات)، لا الجبلي على ما هو شائع. إذ يمكن تبيان امتداد المواويل الزجلية والعتابا وأبو الزلف وأشكال هذا الغناء على مساحة تشمل فلسطين وأجزاء من سوريا، إلى جانب لبنان بجبله وجنوبه وبقاعه. بل يجوز القول إن هذا الغناء الريفي مرتبط عضوياً بالطبيعة الزراعية لاقتصاد الريف، لذا قلما شذ الصافي، الريفي النشأة، في مضمون اغنياته عن نمط هذا الغناء (باستثناء اغنيات سينمائية قليلة مع بليغ حمدي).

غير ان الصافي لم يجد "تراثاً" ملقى فأحياه. بل ابتكر، بالتعاون مع فيلمون وهبي والرحابنة، تراثاً ريفياً غير مسبوق، بالتضامن مع شعراء اغنياته (وربما كان ميشال طراد واسعد السبعلي أوفرهم موهبة، ومعهما رشيد نخلة واسعد سابا ومارون كرم وتوفيق بركات وعبد الجليل وهبة وغيرهم) ممن أنشأوا عصبة الشعر اللبناني والذين ابتكروا الزجل اللبناني الحديث، والذي انتهى او كاد مع جيلهم أيضاً (ويكاد سجل اغنيات الصافي أن يكون ثبتاً بأجمل قصائدهم). ولهذا الابتكار جانب موسيقي يلمحه من يقارن ريفيات يوسف تاج وعلياء المنذر وتسجيلات فرج الله وايليا بيضا، بما أتاه وديع الصافي في تطوير أسلوب غنائه كي يلائم، على طريقته، البحث الرحباني عن الوضوح الزخرفي في موسيقاهم المتخففة من الزخرف. فعِرب الصافي لا تشبه حتى جموح صوت صباح، الصوت الوحيد الذي لا يبتلعه حضور صوت الوديع في المحاورات، ولا تشبه العفق الصوتي المصري التي قد نجدها لدى البيروتي محي الدين بعيون أو الطرابلسي صليبا القطريب، ولا بطبيعة الحال عفوية وارتباك العِرب لدى آل بيضا أو المغنين الريفيين. صوت وديع الصافي هو صوت جبار لكن اسلوبه، الذي تطور معه على مر السنين، اتى نتيجة تدريب ومران طويل على الأسلوب الوهابي في الغناء (ولم يكن محمد عبد الوهاب ليمنح لقب مطرب المطربين لمن لم يكن من مدرسته) في دقة العِرب ووضوحها واعتمادها على اوتار الحنجرة كمن يعزف على الكمان أو على العود (استمع مثلاً إلى ثلاثياته الهابطة كشلال مياه اندلسي)، لا على التلاعب بالنفس والعفق الصوتي. هذا الأسلوب الوديعي كان أيضاً نتاج الاحتكاك باستيطيقيا الرحابنة والباشا ودفعهم الصافي إلى الغناء مع اوركسترا منضبطة بدلاً من الغناء على العود أو التخت الصغير (مقارنة زلفياته الخمسينية بريفياته بعد عقد واحد دليل على تغير اسلوبه الغنائي المتواصل في هذا الاتجاه). يسمي الصافي اختياره وتشذيبه للعِرب الصوتية أناقة، مثلما كان يقول عن عبد الوهاب، إذ بالفعل يمكن الاستدلال إلى انسجام هذا التوجه مع مزاج الصافي من خلال مقولته الشهيرة بأنه كان عاشقاً مبكراً لأناقة عبد الوهاب الصوتية، وكذلك اسمهان، في حين ان "سلطنة وسرسعة" صوت ام كلثوم لم تكن تلائم سمعه إلى ان طبع السنباطي أداءها بأناقته الخاصة.

طرب الصافي لا ينبع من مجازفة واندفاع الصوت في حالته الوحشية، بل من السيطرة والتملك المطلق لآلته الصوتية في كل حنانها وقوتها. يظل صوت الصافي في نضج خامته الفريدة منضبطاً واضحاً، إلى سلاسته وعذوبته المتساوية على كامل امتداد مساحته الصوتية الشاسعة، ولعل هذا الانضباط الحاذق العارف بأسرار النغم ما يجعل صعباً استقبال الصافي بغير طرب عارف أيضاً. فباستثناء القلة القليلة، أي ريفيي الروح الذين تخاطب كلمات المعنى والقرادي والعتابا حنين أرواحهم إلى قرى الطفولة الأولى، تضاعف سيطرة الصافي على صوته وعدم انفلاته ولو للحظة من المسافة التي ينشئها الكلام بيننا وبين عالم اغنياته البعيد. لذا انفردت "رح حلفك بالغصن يا عصفور" (ميشال طراد) بالتفضيل الشائع لدى عموم السامعين إذ انها الأبعد عن تفرد المزاج الريفي، بتحويله مزاجاً رومانسياً، وبإخضاع صوت الصافي إلى لحن الرحابنة البديع الذي سمح، لمرة، بالاستماع إلى الصافي وتصديقه عاشقاً، لا مادحاً للطبيعة وللجمال والمثل أو لاهياً متلاعباً، حسب قواعد الزجل، بمعاني الكلام فحسب. في مثل هذه الأغنية، وربما "يا عيني عالصبر" أو "ولو"(أسعد السبعلي)، يصبح الصافي منافساً حقيقياً لأبطال الأغنية المعاصرة الرومنسية التي يذوب سامعها تماهياً مع مؤديها (أي امتداد عبد الحليم وفيروز لعبد الوهاب وليلى مراد).

هذه الطبيعة المتباعدة لأغنيات الصافي والحضور الطاغي للسيطرة والصنعة الباهرة في غنائه، فضلاً عن دوره كحصن الهوية الريفي الذي يمكن للرحابنة والباشا ان ينطلقوا منه اساساً راسخاً في جولاتهم الأوروبية، نفحت حضوره الريفي (أي حيث المناخ البطركي دائماً طاغٍ) بنفحة ابوية تتوسل الأمثال ومخاطبة المستمع مخاطبة الابن، لا مخاطبة الشريك في الجوى. غير ان لذلك ربما، أيضاً، سبب آخر، هو الانطلاقة المتأخرة لوديع الصافي، رغم انه بدأ الغناء وهو ابن سبعة عشر عاماً فأتم في مجال فنه ثلاث أرباع قرن كاملة. غير ان الصافي لم يبدأ فعلياً درب الشهرة إلا بعد عودته من اغترابه البرازيلي وانصاته إلى نصيحة حليم الرومي بالعدول عن نمطه الأصلي، أي الغناء الطربي الوهابي، إلى النمط الريفي. فبدأ مشواره من جديد إلى ان وصل حدود الشهرة مع مهرجانات بعلبك في نهاية الخمسينيات، أي وهو يقترب من اربعينياته ومن اكتمال نضج صوته إلى ما يفوق الوصف. وبحسابات آنذاك كان من الصعب على الوديع، بصوته الرائع والهائل، ان يتصاغر ليؤدي ما يؤديه عبد الحليم أو فريد أو منافسوهم الأصغر سناً بعد. فتحول مبكراً إلى دور الحكيم الناصح، جبل الثبات ومرساة عالمه المتلاشي (وإن غنى قصائد وابتهالات فقد كانت أيضاً عن عوالم متلاشية إما روحياً في ترانيمه أو زمنياً كما في أدائه قصائد المتنبي وابن زيدون).

ما سبق من ملاحظات وشروح ليس سوى محاولة لفهم سبب استدراك الكثيرين، في مناسبة وفاته، انهم يقدرون فنه لكنه ليس مطربهم المفضل. هل كان وديع الصافي، كما تقول اعلانات جولته الأميركية، مطرب عاطفياً؟ ليس الجواب اكيداً، فالصافي هو بالفعل مطرب المطربين، أي مطرب العارفين بمسالك الطرب والسميعة المخصوصين، وليس مطرب العشاق والمراهقين العاطفيين، والاستماع إلى صوته الهادر الحنون الجبار المتدفق الرقيق الأنيق العذب الضخم في آن معاً هو استماع مكلف ومتطلب، لا يخفف من وطأته المظلومية التي تعرض لها (والتي تحببنا بنصري شمس الدين رغم ريفياته أيضاً) ولا يخفف من كلفته رومانسية الكلام ولا "سهوكة" المغني (على ما يقول المصريون في الميوعة العاطفية) بل يضاعفها كون الصافي مطرباً حقيقياً يتفاعل مع جمهوره اثر كل آهة ينتزعها منهم بالاشارة والابتسام، أقله في العينين، بما يعيد وضع تلك المسافة معه.

اثر كل ذلك، لا حاجة للبحث عن مقارنة صوت الصافي بغيره (وقلائل من يصمد صوتهم مقارنة به، مساحة وعذوبة وطواعية وطربا) أو التشديد على عذوبة مخارج حروفه المتأنقة، ولا للتركيز على ما اتاه الرجل وهو في الثمانين، بل في التسعين من عمره. أكان عليه ان يلوذ بالصمت كي يرضى الساخطون، أم كان من حقه، وهو في السن هذه، أن يمتع نفسه بالعمل والحفلات وحب الناس وتقرب جيل أحفاده منه؟
لا رثاء للصافي، الرجل الطيب الوادع ضحكة العينين، إذ ان من يستطيع له رثاء هو من يغيب اليوم بغيابه، أي الوطن اللبناني الذي حاول موسيقيو الخمسينيات والستينيات بناءه على اساس حلم ريفي طفولي كان يتلاشى، فيما كان نازحون إلى بيروت من القرى المتداعية تحت وطأة الاقتصاد والتهديد الاسرائيلي يبدأون مشوارهم لنزع الاسطورة عن هذا الحلم.. حتى انتهينا إلى الاكتشاف بأنه لا وجود للبنان خارج ذاك الحلم، وان كل الاحلام البديلة لا تنتمي إليه ولم تُبن على أساس الدفاع عن ضرورة وجوده وبناء اختلاف له عن جواره. لم يبق لنا إذاً، ونحن نرافق ذلك الوطن إلى وداع أخير في دوامة الحروب المحيطة، إلا الاحتفاء واستذكار أعذب لحظات الحلم. تلك التي شارك فيها وديع الصافي، صباح، بالمواويل، أو نجاح سلام بالمعنّى، أو فيروز ونصري شمس الدين في سهرات بَنَت من وهم الضيعة وطناً لم يعمّر فوق أصواتهم، لكنه ربما يظل يسري في أحلام من يستمع إليهم، في كامل المشرق العربي.


increase حجم الخط decrease