تبدو الذكرى الـ48 لنكسة-حزيران/يونيو 1967 لهذا العام مفعمة بالشجون والدلالات، مع تدمير قطاع غزة واقتطاع ثلثه على الأقل كمنطقة عازلة، وخطط الضم الزاحف والصامت بالضفة الغربية بدون أي استراتيجية فلسطينية بمواجهتها، اللهم إلا صمود وعناد الناس، وحتى بدون اهتمام وتعاطي إعلامي كما ينبغي، بموازاة تسريب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذى فهم منذ خمسة عقود ما لم يفهمه قادة حركة حماس، بينما الأمل كان ولا يزال معقوداً على العقل الجمعي الفلسطيني المدعوم إنسانياً وعربياً ودولياً، والمتقدم دوماً على قادته القصّر، كما في الاستقطابات والخلافات البنيوية العميقة داخل الدولة العبرية وتآكل مظلة الحماية الغربية والدولية لها، علماً أننا لم نكن بحاجة إلى ربع مليون شهيد وجريح و2 مليون نازح وتدمير غزة بالكامل لتحقيق هذا الأمر الذى كان حتمياً. إلى ذلك، تتجسد بقعة الضوء في إسقاط نظام آل الأسد الذي كان شريكاً في النكسة -النكبة، ولم يتحمل وزير الدفاع حافظ الأسد المسؤولية عنه،ا بل رقّى نفسه بعدها إلى رئيس جمهورية عبر انقلاب عسكري ضد تاريخ البلاد العظيمة، ومزاج الشعب وعقله الجمعي الذي فرض إرادته ولو بعد حين، علماً أن الأمر كان حتمياً أيضاً، ومسالة وقت باعتبار حكم آل الأسد شاذاً وجملة اعتراضية في تاريخ البلاد العميق والممتد.
نكبة لا نكسة
إذن بداية ومنهجياً لم تكن هزيمة 67 مجرد نكسة، بل نكبة كاملة الأوصاف، فأن تهزم ثلاثة جيوش عربية في ست ساعات لا أيام رغم فارق القوة الهائل لصالحها، وأن تحتل إسرائيل كامل فلسطين التاريخية – غزة والضفة بما فيها القدس- بالإضافة إلى هضبة الجولان بموقعها الاستراتيجي والتي لا يمكن أن تسقط وفق أي منطق عسكري، وشبه جزيرة سيناء مترامية الأطراف التي تبلغ مساحتها أضعاف مساحة فلسطين، فهذه نكبة موصوفة ولا شك ولا يمكن الجدال فيها أصلاً.
حكام النكسة فهموا حقيقة أنها نكبة كاملة الاوصاف ولم يستخدموا المصطلح عن عمد كونهم وصلوا إلى السلطة على ظهور الدبابات، بحجة إزالة النكبة الأولى 1948 ثم لم يتغيروا بل غيروا القضية نفسها عبر القبول بقرار مجلس الأمن 242 ومشروع وزير الخارجية الأميركي وليم روجرز، الذي وضع النواة لما يعرف بحل الدولتين وقبول العرب بدولة فلسطينية على 22 في المئة من فلسطين التاريخية.
لا سلام بدون سوريا
من هنا فهم جمال عبد الناصر كما سمعنا "وبعظمة لسانه" أن هزيمة إسرائيل وانتصار العرب قضية أممية بامتياز، ولن تحدث في ظل ميزان القوى الدولية المختل لصالح داعمي وحاضني الدولة العبرية، سار خلفه أنور السادات وفق النهج نفسه، لكنه تصرف بسذاجة استراتيجية مع تصور أن استعادة سيناء بغض النظر عن بقية الأراضي العربية المحتلة تكون مقابل كلمات فقط متجاهلا التداعيات الاستراتيجية والتاريخية لاعتراف اكبر دولة عربية بإسرائيل وخروجها من دائرة الصراع، وهدم قاعدة لا حرب بدون مصر بينما هدم نظام آل الأسد الشق الثاني -لا سلام بدون سوريا- مع تدمير البلاد وتسليمها للغزاة على اختلاف مسمياتهم واشكالهم مقابل بقاء النظام في السلطة ولو شكلا فقط .
لم يفهم قادة حماس ما فهمه ناصر قبل 48 عاماً وتصرفوا بسذاجة وخفة -مع افتراض النوايا الطيبة- في عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، مع حديث خارج التاريخ عن تحرير فلسطين، ليس فقط من قوى عربية مهمة ومركزية –حسب تسريبات ناصر –وإنما من غزة المحاصرة بأسلحتها المتواضعة، وهو أمر مناقض للمنطق والواقع، مع أعداد ليوم واحد دون أي تبصر بالأسئلة والتداعيات الاستراتيجية، ثم تراجعوا عن ذلك عملياً-رغم الآلة الإعلامية الجبارة والجيش الالكتروني المروج والمجمل لنكبة 2024- وبعد خراب ودمار مالطا "غزة" عبر مطالبهم الأربعة الشهيرة لإطلاق سراح الاسرى -الورقة الوحيدة بأيديهم غير دماء الغزيين ولحم أطفالهم- والمتمثلة بإنهاء الحرب والانسحاب وادخال المساعدات وإعادة الإعمار ما يعني عملياً العودة لمساء 6 تشرين أول/أكتوبر وكأن شيئا لم يكن.
تعميق النكبة
كانت النتيجة ليسن فقط مئات آلاف الشهداء والجرحى وملايين النازحين والمهجرين وإنما تعميق النكسة-النكبة وتدمير غزة نفسها واقتطاع ثلثها على الأقل من خلال المنطقة العازلة المدمرة بما في ذلك سلة غذائها على افتراض الانسحاب بعد نهاية الحرب من غزة، واليقين الإسرائيلي من إعادتها سنوات بل عقود للوراء وإخراجها هي نفسها من دائرة الصراع بعد اخراج مصر ثم العراق وسوريا، وهي الدول التي كانت حاضرة تاريخياً في صد الغزاة وتحرير فلسطين.
إلى ذلك وفي ذكرى النكسة-النكبة- وقع الأسوأ باستغلال إسرائيل حرب غزة للمضي قدماً في تعميق النكسة-النكبة عبر خطة الضم الزاحف بالضفة الغربية مع تسارع وتيرة التهويد والاستيطان غير المسبوقة بغياب استراتيجية وطنية لمواجهتها ولا نرى للأسف تغطية إعلامية جدية واسعة بمستوى الحدث حيث ستتم كتابة قراءة منفصلة إن شاء الله.
رغم المعطيات السابقة تجسدت بقعة الضوء ولا تزال بالعقل الجمعي الفلسطيني العنيد والمتماسك والرافض للاستسلام والهزيمة، كما عدالة القضية نفسها والتفهم العالمي وتقبل الرواية العادلة بانتظار فعل سياسي فلسطيني جاد وملائم.
حدود الحرب الأهلية
أما في اسرائيل نفسها التي تحمل جرثومة زوالها وانهيارها كنبتة غريبة في بيئة معادية ستذبل حتماً وتموت مع الزمن، وهذا ليس أمراً إنشائياً وبلاغياً، إنما هو حقيقة ساطعة وغير مرتبطة مباشرة بمجريات الصراع في فلسطين والمنطقة، علماً أن الجبهة بل الجبهات العربية كانت الأهدأ خلال السنوات السابقة لحرب غزة، شمالاً وجنوباً ووسطاً، ورغم ذلك انفجرت التناقضات والخلافات الإسرائيلية البنيوية والعميقة، ولامست حدود الحرب الأهلية. حيث الجبهة الداخلية هي الأخطر استراتيجياً-إضافة الى عناد وصمود الفلسطينيين- كما يقال عن حق من قبل سياسيين واستراتيجيين كبار في إسرائيل.
بقعة ضوء أخرى نعيشها في سوريا مع آمال بإزالة آثار النكسة -النكبة إثر سقوط أحد أركانها حيث أطلق سقوط نظام آل الأسد عملية جادة ومصممة لإعادة بناء البلاد المدمرة بانتظار سيرورة عربية مماثلة بحواضرنا التاريخية والكبرى لاستغلال تآكل مظلة الحماية الدولية الغربية للدولة العبرية. وبالعموم نحتاج إلى عمل فلسطيني وعربي جاد وكبير ومثابر لإدارة الصراع بوتيرة جماعية ومتبصرة وهادئة، تترك المجال أمام انفجار التناقضات الداخلية في إسرائيل، وتمنعها من مواصلة جرائم الحرب والتهجير ودون الاستسلام أو الهزيمة أمامها نفسياً وميدانياً ولا سياسياً ودبلوماسياً كذلك.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها