لا يمكن تبرير موقف الولايات المتحدة في استخدامها حق النقض (الفيتو)، ضد مشروع قرار وافقت عليه 14 دولة من أصل 15 عضو في مجلس الأمن الدولي، وكان يتضمن فرض وقف دائم لإطلاق النار في قطاع غزة، وإدخال المساعدات الغذائية والطبية الى سكانه الذين يعانون من تجويعٍ موصوف لا مثيل لبشاعته. وتبرير وزير الخارجية ماركو روبيو للموقف بإعتباره تسهيلاً للحراك الدبلوماسي التي يقوم به مبعوث بلاده ستيف ويتكوف؛ غير مُقنع على الإطلاق، وهو بمثابة "تغطية للسماوات بالقبوات" ويزيد من حدة الإمتعاض العربي والدولي الكبيرين من سياسة الإدارة الجديدة في الشرق الأوسط.
ومع تزايد الجنوح الإسرائيلي الذي تجاوز كل الحدود في قفزه فوق كل القرارات الدولية، وفي تهميشه للقيّم الإنسانية التي توارثها الشعوب، وبحججٍ واهية؛ تبدو واشنطن شريكة في هذه المعادلة العدوانية، لأنها تعطي السلاح المتطور والفتاك لإسرائيل، وتمنحها قدرات مالية ولوجستية، وتدافع عنها في المحافل الدولية التي ذاقت ذرعاً من تصرفاتها الهمجية، ومن تجاهلها للإرادة الدولية الجامعة التي تُساند مساعي الوصول الى حل عادل وشامل في المنطقة، يقوم على إعطاء الفلسطينيين حق انشاء دولة ذات سيادة كاملة على أراضيهم.
الولايات المتحدة تتصرف في المنطقة العربية والشرق أوسطية؛ كأنها الوحيدة الموجودة على الساحة، وهي لا تُعير أي اهتمام لموقف القوى الحيَّة، ومنهم الكثيرين من الأصدقاء لها، وهي تتجاهل الشركاء الدوليين الذين لهم مصالح عليا مع الدول العربية، وفي هذه الجغرافيا المترامية على أهم بقعة من العالم. والتعاون الدولي في مقاربة الملفات الحساسة للشرق الأوسط؛ كان قائماً حتى إبان مرحلة الحرب الباردة، وواشنطن كانت شريكة مع آخرين في لجان تعمل لإنتاج التسويات، وتخفيف الاحتقان، ولم يشعر العالم من قبل بأن المنطقة ساحة نفوذ خالصة لدولة كبرى واحدة كما هو عليه الحال اليوم.
ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تستفرد بالقرار الدولي العام، وبالتحكُّم بمفاصل اللعبة في الشرق الأوسط بكاملها، لأن ذلك يستفزّ أصدقائها قبل خصومها، والمستقبل يُبشِّر بتغييرات قد لا تكون في مصلحتها، والامتعاض الروسي والصيني والأوروبي والعربي من الانفراد بمسك الملفات الحساسة، وتجييرها لصالح الجنوح الإسرائيلي؛ يتزايد، وهذه الأطراف المؤثرة لن تبقى مكتوفة الأيدي جراء تجاهل دورها ومصالحها، برغم أنها لا ترغب بالمواجهة مع الولايات المتحدة. وما حصل على المستوى الأوروبي أخيراً خير دليلٍ على ذلك، وهناك دول رئيسية في الاتحاد اتخذت إجراءات ضد إسرائيل، وتشارك في تحركات لفرض "حل الدولتين" في أروقة الأمم المتحدة، ومن خلال الاتصالات الخارجية، وآخرها قيام وفد فرنسي رفيع المستوى بزيارة تل أبيب بهدف التسويق للفكرة العادلة.
أما تهميش دور الأمم المتحدة، ووكالاتها المُتخصصة – لا سيما "الأونروا"– فهو ليس في مصلحة الانتظام الدولي من جهة، وسيؤدي إلى عدم استقرار طويل الأمد من جهة ثانية. فالهيئة الدولية الأم، كانت شريكاً في تسوية النزاعات على الدوام، وهي ملجأ آمن عند وصول التوترات الى سقوف عالية، والقوى المؤثرة – لا سيما الولايات المتحدة – تحتاجها لتدوير الزوايا، وللخروج من الإنسدادات السياسية والعسكرية التي تحصل، ومن خلالها مؤسساتها الفاعلة – لا سيما مجلس الأمن – يمكن تجنَّب أية مواجهة خطرة. ذلك ما حصل على سبيل المثال عندما هدَّد الرئيس السوفياتي الراحل ليونيد بريجنيف، باستخدام السلاح النووي إذا لم يتوقف عدوان العام 1967، وكان قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي أوقف اطلاق النار، وطالب بإنسحاب القوات الاسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة، وهي قاعدة مُنصفة لأي تسوية، وصالحة حتى يومنا هذا.
إفشال المبادرة الدولية الجامعة التي اتفقت عليها كل دول مجلس الأمن الدولي ما عدا الولايات المتحدة في 4 حزيران/يونيو) 2025، بمثابة الكارثة الدبلوماسية، وهذا الإفشال يضع واشنطن في موقفٍ صعب جداً، لأنه يؤكد تعاطفها في جريمة العصر التي ترتكب ضد الفلسطينيين، ويمع اطلاق يد العدوان الإسرائيلي الذي استباح كل المحظورات، من خلال جنوح آلته العسكرية الذي يطال قصف وتدمير منشآت مدنية وإنسانية في أي مكان، وهي تُهديد استقرار الدول العربية المجاورة، بينما غالبية هذه الدول تحرص على علاقات مُتميزة مع واشنطن، وتريد إيجاد حلول سلمية للنزعات القائمة.
الشعور بفائض القوة، وممارسة العدوان بدون أي قيود أو ضوابط؛ سيُفاقم التوتر في المنطقة، وسيفتح الباب أمام خيارات لتوليف توازنات جديدة، لن تكون في مصلحة الولايات المتحدة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها