في خطوةٍ تتجاوز حدود البروتوكول الدبلوماسي، وصل الرئيس السوري أحمد الشرع إلى باريس في أول زيارة رسمية له لدولةٍ غربية منذ تسلّمه السلطة الانتقالية في سوريا. وقد أتت الزيارة بموجب استثناءٍ أمميٍّ خاصٍّ رُفِع بمقتضاه حظر السفر المفروض عليه، فأضفت عليها رمزيةً سياسيةً عميقة تتعدّى إطار الزيارات التقليدية.
حذرٌ مشوبٌ بالتردّد
لطالما كانت فرنسا لاعباً أساسياً في الملف السوري منذ اندلاع الثورة عام 2011؛ إذ تبنّت موقفاً متشدّداً ضدّ نظام بشار الأسد ودعمت قوى المعارضة. لكنّها تجد نفسها اليوم في موقفٍ دقيقٍ إزاء الشرع، الذي يمثّل نموذجاً معقَّداً للقيادة الانتقالية في دمشق.
من ناحيةٍ أولى، تواجه باريس ضغوطاً سياسيةً وأخلاقية تمنعها من تقديم دعمٍ مطلقٍ لشخصيةٍ ذات ماضٍ جهادي، ما يشكّل عبئاً على ماكرون الساعي إلى ترسيخ صورته كقائدٍ في مكافحة الإرهاب. ومن ناحيةٍ أخرى، تدرك أن تجاهل الشرع قد يفتح الباب أمام روسيا وإيران وتركيا لترسيخ نفوذها في سوريا، في تعارضٍ واضحٍ مع المصالح الفرنسية.
وتُدرك فرنسا، التي كانت من أبرز داعمي القوات الكردية في شمال-شرق سوريا، أنّ القيادة الانتقالية الحالية قد تتيح لها استعادة زمام المبادرة عبر اتفاقٍ يضمن عدم تهميش الأكراد في أيّ تسويةٍ سياسيةٍ مقبلة؛ وهي ورقة ضغط إضافية بين يدي ماكرون ما دام الشرع لم يحدّد موقفه منهم بعد.
المصالح مقابل المبادئ
تحاول باريس موازنة مصالحها الاستراتيجية في سوريا مع التزاماتها المُعلَنة حيال حقوق الإنسان والديمقراطية، في وقتٍ يشهد فيه الشرق الأوسط تحوّلاتٍ كبرى، ويتصاعد التوتر في الجنوب السوري بين قوات الأمن التابعة لحكومة الشرع وفصائل درزية، وتستمر الاضطرابات في الساحل، وتزداد تعقيدات الوضع الأمني في حمص.
لذا قد تفتح فرنسا قنوات تواصلٍ حذرة مع الشرع دون أن تنجرّ إلى تطبيعٍ كامل. بينما يُعقّد المشهد الأوروبي سعي ماكرون للتوفيق بين التحرّك الفردي والتنسيق مع برلين ولندن، اللتين ما زالتا تتخذان موقفاً متصلّباً من القيادة الانتقالية في دمشق؛ تبايُن قد يمنح باريس ورقة ضغط على الشرع، لكنه في الوقت ذاته يقيّد هامش حركتها.
وحضر الملف الأمني بقوة في المباحثات السورية-الفرنسية وسط تزايد العمليات العسكرية في الجنوب واحتمال امتداد الفوضى إلى الحدود مع لبنان، بما يهدّد الأمن الإقليمي-الأوروبي. وقد ألمح ماكرون إلى دعم جهود دمشق في ضبط الحدود، شريطة ضمان عدم استغلال الملف لتصفية الخصوم أو تعزيز سلطة الشرع منفرداً.
أما في الشمال-الشرقي، فتتابع باريس عن كثب تعامل الشرع مع القوات الكردية التي سبق دعمُها فرنسياً، وتلوّح باستخدام هذا الملف لانتزاع تنازلات تُعيد فتح قنوات الحوار الكردي قبل أي تسويةٍ شاملة.
بوابة الشرع إلى أوروبا
بالمقابل، يسعى الشرع إلى جعل باريس بوابة عبوره نحو العواصم الأوروبية لتخفيف العقوبات المفروضة على بلاده، مدركاً مركزية فرنسا الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي. غير أنّ باريس تربط أيّ تخفيفٍ للعقوبات بإصلاحاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ ملموسة.
وقد عرض الشرع خططاً لمحاربة الفساد وضبط تجارة المخدرات كإشاراتٍ على جديّة حكومته، إلا أنّ باريس لا تزال متوجّسة من استمرار نشاط جماعاتٍ متطرفة على الأرض، بعضها مرتبط بفصائل موالية له سابقاً.
كما أثار إعلان الشرع عن مفاوضاتٍ غير مباشرة مع إسرائيل، بوساطةٍ إقليمية، تساؤلاتٍ حول تحوّلٍ محتمل في استراتيجية دمشق. ترى باريس في هذا الملف محاولةً من الشرع لاستخدام التهدئة جنوباً لانتزاع تنازلاتٍ غربية، لكنها تشترط خطواتٍ ملموسة: الكشف عن الجماعات المسلّحة المرتبطة بإيران ومواجهتها، وضمان عدم استهداف الجبهة مع إسرائيل.
مغامرة سياسية محفوفة بالمخاطر
في هذا السياق، تبدو زيارة الشرع إلى باريس خطوةً محسوبة لإعادة التموضع السياسي عبر الانفتاح على العواصم الغربية. غير أنّ الرهان على فرنسا يتطلّب منه توازناً دقيقاً بين الانفتاح وتقديم تنازلاتٍ جوهرية أمنية واقتصادية. في المقابل، لن تمنح باريس غطاءً سياسياً قبل التحقّق من جدية إصلاحاته.
وبينما يسعى ماكرون إلى الموازنة بين المبادئ والمصالح، سيظل موقف فرنسا رهناً بقدرة الشرع على إثبات كفاءته في إدارة ملفاتٍ ملغومة، من إعادة الإعمار إلى مكافحة الإرهاب. فإن أخفق في إقناع الغرب بجدّيته، قد تتحوّل الزيارة من خطوةٍ لإعادة التموضع إلى مغامرةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، تعيد تكريس صورته كقائد ميليشيا لا كزعيمٍ انتقالي.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها