شهدت السنوات الأخيرة محطات توتر عديدة بين تركيا وفرنسا، أبرزها وقوف الدولتين على طرفي نقيض من الصراع الذي اندلع في ليبيا عام 2019، بين قوات خليفة حفتر وحكومة الوفاق الوطني، كما أن فرنسا كانت من أبرز معارضي الاتفاقية التي وقعتها أنقرة مع طرابلس المتضمنة ترسيم الحدود البحرية، وسبق هذا، الدعم الفرنسي غير المباشر لمنتدى غاز شرق المتوسط الذي سعى لحرمان تركيا من النفوذ ومنعها من التنقيب عن الثروات في حوض المتوسط.
وتنافست الدولتين لسنوات طويلة على النفوذ في القارة الإفريقية التي شهدت تراجع الحضور الفرنسي لصالح كلاً من تركيا وروسيا.
مؤخراً، تسعى كل من تركيا وفرنسا لتحصيل نفوذ سياسي وأمني واقتصادي مؤثر في سوريا، الأمر الذي يثير المخاوف من احتمالية تضارب المصالح بينهما، وانعكاسه سلباً على الاستقرار في سوريا.
العلاقة بعد حرب أوكرانيا
ظهرت مؤشرات عديدة على حصول متغيرات في العلاقة بين فرنسا وتركيا بعد الحرب الأوكرانية، فقد أطلقت باريس في آذار/مارس 2022، مبادرة تضم اليونان وتركيا تتضمن إيصال الدعم الإنساني إلى ماريوبول الأوكرانية.
الحرب الأوكرانية ومساندة فرنسا وتركيا بنسب متفاوتة لكييف، فتح المجال أمام زيارات متبادلة لمسؤولي البلدين بهدف التنسيق، فالتقى الرئيسان إيمانويل ماكرون ورجب طيب أردوغان، واستقبلت أنقرة مسؤولين من وزارة الدفاع الفرنسية، وتم إجراء مناورات مشتركة شرق المتوسط.
ومن الواضح أنه بعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض لفترة جديدة، تسعى أوروبا إلى إعادة صياغة مفهومها الأمني ووضع خطة دفاعية، وهنا تبرز أهمية تركيا المتحكمة بالمضيق الذي يربط البحر المتوسط بالأسود.
علاقة باريس بدمشق
تنظر تركيا بالدرجة الأولى للملف السوري من المنظور الأمني بحكم الحدود المشتركة بين البلدين التي تتجاوز 900 كيلومتر، وقد شكلت هذه الحدود مصدر قلق لأنقرة بعد عام 2013، نتيجة تنامي قوة وحدات حماية الشعب الكردية التي ترتبط بعلاقات تنظيمية مع حزب العمال الكردستاني، وهذا ما دفع أنقرة إلى إيلاء أهمية لتقويض هذا النفوذ، لدرجة إبداء استعدادها للتقارب مع نظام بشار الأسد قبل سقوطه من أجل العمل المشترك ضد مشروع "الإدارة الذاتية" الذي أسسته الوحدات، على الرغم من العداء المستحكم بين أنقرة والأسد نتيجة دعم تركيا لمعارضي الأخير.
مع شروع الولايات المتحدة بسحب قواتها من شمال شرق سوريا في آذار/مارس الماضي، وجدت وحدات الحماية نفسها مضطرة لتقديم تنازلات للحكومة السورية وتوقيع اتفاق معها يقر بوحدة البلاد، مع إبداء الاستعداد للانخراط ضمن مؤسسات الدولة، نظراً لشعور الوحدات بحتمية فقدانها للدعم الأميركي، إلا أن التدخل الفرنسي وما رشح من معلومات عن تقديم وعود للوحدات بدعمها، أدى إلى تعقيد المشهد وعقد مكونات كردية سوريا لمؤتمر توحيد الموقف الكردي الذي تبنى مطلب الفيدرالية في سوريا فيما يشبه الانتكاسة للتفاهمات بين وحدات الحماية ودمشق.
بعد المؤتمر أعلنت الحكومة السورية عن توقيع عقد لمدة 30 عاماً مع شركة فرنسية ستطور ميناء اللاذقية وتعمل على تطويره، وبعائدات أقل من التي كانت تدفعها الشركة عندما كانت تستثمر الميناء زمن نظام الأسد، ثم تلى هذا، اللقاء التاريخي بين ماكرون والرئيس السوري أحمد الشرع في العاصمة باريس، وما تضمنه اللقاء من مؤشرات إيجابية على تقدم العلاقات بين الجانبين، حيث أكد ماكرون على دعمه لوحدة الأراضي السورية، وإشادته بجهود الشرع.
إن تقدم العلاقات بين الحكومة السورية وفرنسا، وبالطريقة التي تدفع الأخيرة للتراجع عن اعتمادها على قوات "قسد" التي تشكل وحدات الحماية عصبها الرئيسي، سيصب في صالح تركيا في نهاية المطاف، بل يمكن القول إن الجانب التركي يبذل جهوداً حثيثة لحصول الحكومة السورية بقيادة الشرع، على شرعية دولية وإدماجها في المنظومة الدولية بما فيها التحالف الدولي لمكافحة داعش، لأن هذا سيسحب البساط تدريجياً من تحت "قسد" كما يحصل مؤخراً في الحالة الفرنسية.
يمكن لتركيا وفرنسا التعاون في الملف السوري، والتنسيق في البحر المتوسط، خصوصاً وأن تركيا عززت من نفوذها في حوض المتوسط من خلال الاتفاقيات التي وقعتها قبل سنوات مع ليبيا، كما أن أنقرة تدرك فيما يبدو أن عدم تفهمها للمصالح الفرنسية في سوريا، قد يدفع باريس إلى زيادة الضغوطات على الحكومة السورية مما سيصب في صالح "قسد" في نهاية المطاف.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها