الثلاثاء 2025/04/15

آخر تحديث: 00:12 (بيروت)

القنيطرة بعد سقوط النظام: فرصة اقتصادية تنتظر التفعيل

الثلاثاء 2025/04/15
القنيطرة بعد سقوط النظام: فرصة اقتصادية تنتظر التفعيل
© Getty
increase حجم الخط decrease
مع سقوط نظام بشار الأسد، دخلت محافظة القنيطرة جنوب سوريا مرحلة جديدة من تاريخها الحديث، مرحلة يبدو فيها المشهد السياسي مفتوحاً على احتمالات التحول، والمجتمع في حالة ترقّب لتصحيح عقود من التهميش المتعمد. وفي قلب هذا التحول، تتبلور الأسئلة الاقتصادية كأكثر الملفات إلحاحاً: هل تستطيع القنيطرة النهوض من ركام الحرب والإهمال؟ وهل يمكن لهذا الهامش الجغرافي أن يتحول إلى مركز فعّال في سوريا ما بعد الاستبداد؟

رمزية القنيطرة
ولم تكُن القنيطرة، الواقعة على خط التماس مع الجولان المحتل، يوماً محافظة كغيرها. فهي ليست فقط إحدى بوابات الجنوب السوري، بل لطالما حملت رمزية سياسية وجغرافية جعلتها عرضة لعزلة ممنهجة من قبل النظام السابق، الذي أبقى التنمية خارج حدودها، واستثمر في إبقائها منطقة عسكرية مغلقة أكثر منها فضاءً مدنياً منتجاً. اليوم، ومع انفتاح مرحلة انتقالية جديدة، تعود القنيطرة إلى الضوء، لا من بوابة المعارك، بل من بوابة الاقتصاد والتنمية.
الزراعة، التي تشكل العمود الفقري للهوية الاقتصادية للقنيطرة، تبرز كأول قطاع يحتاج إلى تدخل سريع. فالمحافظة الغنية بالأمطار، تمتلك تربة خصبة قادرة على إنتاج أنواع متعددة من المحاصيل، من الحبوب إلى الخضروات والأشجار المثمرة. إلا أن ما حصل خلال العقود الماضية كان أقرب إلى حصار اقتصادي صامت، حيث أُهمِلت البنية التحتية الزراعية، وغابت شبكات الري، وفُقِدت آليات الدعم، ليجد الفلاح نفسه في مواجهة الطبيعة من دون أدوات. واليوم، مع غياب النظام الذي عرقل كل إمكانية للنهوض، تظهر الحاجة لتأسيس صندوق دعم زراعي مستقل، يوفّر التمويل، ويعيد الثقة إلى الفلاحين، ويقيم شراكات مع منظمات دولية مختصة بالزراعة المستدامة.
لكن لا زراعة من دون بنية تحتية. فالمحافظة التي تعرضت لتدمير كبير في شبكات الكهرباء والمياه والطرق، بحاجة إلى خطط عاجلة لإعادة ربط القرى بعضها ببعض، وإنشاء محطات طاقة بديلة، خصوصاً أن الطاقة الشمسية باتت خياراً عملياً في المناطق الريفية. اللافت أن حجم الدمار في القنيطرة أقل نسبياً من المدن الكبرى، مثل حلب ودمشق، ما يمنحها ميزة نسبية في سرعة إعادة التأهيل إذا ما وُجدت الإرادة والإدارة.

تحديات وامتيازات
التحدي الأبرز الذي ينتظر القنيطرة اليوم، يتمثل في إعادة إدماجها بالخريطة التجارية لسوريا والمنطقة. فموقعها الجغرافي بين دمشق ودرعا والجولان، يمنحها امتيازاً نادراً قد يحوّلها إلى عقدة وصل بين الداخل والخارج. إعادة فتح معبر القنيطرة – إذا ما تم ضمن تسويات إقليمية – قد يحوّل المحافظة إلى منصة تجارية حيوية، خصوصاً في حال إنشاء منطقة تجارة حرة تخدم جنوب سوريا بأكمله. كما أن إمكانية الربط مع شبكة النقل في الأردن لاحقاً قد تفتح أبواباً لصادرات زراعية وصناعية لا يمكن التقليل من أثرها على الاقتصاد المحلي.
ومع كل هذه الفرص، يبقى ملف الاستثمار هو مفتاح المرحلة المقبلة. فالقنيطرة تمثل أرضاً خصبة للاستثمارات الزراعية، ومجالاً مفتوحاً لمشاريع الصناعات الغذائية الصغيرة والمتوسطة. ويمكن للتوجه نحو الطاقات البديلة (مثل مشاريع الألواح الشمسية والمزارع الذكية) أن يخلق بيئة جاذبة لرؤوس الأموال، شرط توفير ضمانات قانونية وقضائية، تضمن شفافية المعاملات، وتحمي المستثمر من الفساد أو التقلبات السياسية. ويُتوقع أن تلعب البلديات المحلية دوراً كبيراً في جذب الاستثمارات إذا ما تم منحها صلاحيات حقيقية.
أما سوق العمل، فالصورة فيه معقدة. البطالة واسعة، خصوصاً في أوساط الشباب والنساء، نتيجة سنوات الحرب والإقصاء. ولكن من جهة أخرى، تتوفر في المحافظة قوة بشرية قادرة على الإنتاج، إذا ما تم تأهيلها من خلال برامج تدريب مهني مكثفة. القطاعات الأكثر قدرة على خلق وظائف سريعة هي الزراعة، إعادة الإعمار، والقطاع الخدمي، في حال تم تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتسهيل الحصول على القروض الميسّرة.
إعادة الإعمار نفسها ليست مجرد مشروع بنائي، بل رؤية اقتصادية واجتماعية. ففي القنيطرة، يمكن اعتماد نموذج اللامركزية التنموية، من خلال تمكين المجالس المحلية ومبادرات المجتمع المدني من قيادة عمليات الإعمار، بعيداً عن الاحتكار الحكومي أو التوظيف السياسي للمساعدات. ويمكن أن تصبح المحافظة مثالاً على نموذج جديد في الإعمار، يربط بين العدالة الاجتماعية، والمشاركة الشعبية، والتنمية المستدامة.
اليوم، تعيش القنيطرة لحظة مفصلية. فالماضي فيها محمّل بالحروب والخذلان، لكن المستقبل قد يحمل ما لم تحمله السنوات السابقة: فرصة نادرة لبناء اقتصاد محلي حقيقي، عادل وفعّال. المهمة ليست سهلة، لكن الإرادة الشعبية، وموقع المحافظة، وغناها الطبيعي، كلّها عوامل تجعل من القنيطرة مختبراً اقتصادياً لسوريا ما بعد النظام. سقوط الأسد لم ينهِ الأزمة، لكنه أزاح العائق الأكبر أمام انطلاقة كانت مؤجلة لعقود.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها