كيف أُلغيت اللغة الكردية من المدارس.. دون إعلان رسمي؟

روج موسىالأربعاء 2025/11/05
GettyImages-1249010631.jpg
حجم الخط
مشاركة عبر

لم يكن قرار إلغاء تدريس اللغة الكردية في مدارس عفرين شمال غرب سوريا مفاجئاً بقدر ما كان صادماً في رمزيته. فبعد أكثر من عقد على إدراج الكردية لغةً رسمية في التعليم المحلي من قبل الكرد، تعود المنطقة اليوم إلى مشهد يعيد إلى الأذهان عقوداً من سياسات الإقصاء الثقافي. وفي حين تصف السلطات الخطوة بأنها "توحيد للمناهج"، يرى كثيرون أنها خطوة سياسية تهدف إلى طمس هوية مكوّن أصيل من النسيج السوري.

قبل العام 2018، كانت عفرين تشكّل إحدى أكثر التجارب التعليمية خصوصية في سوريا. فبعد انطلاق الحراك الشعبي في العام 2011، افتتحت أول مدرسة لتعليم اللغة الكردية في سوريا في ريفها الشرقي، ثم بدأت المجالس المحلية الكردية ولاحقاً الإدارة الذاتية ببناء نظام تربوي يعتمد اللغة الكردية لغة أساسية للتعليم، لتصبح في العام 2016 لغة المنهاج الكامل من الصف الأول حتى المرحلة الجامعية، إلى جانب منهاج خاص باللغة العربية للأهالي والقاطنين العرب في المنطقة.

ففي الوقت الذي افتُتحت مدارس ومعاهد لتخريج معلمي اللغة الكردية والعلوم والموسيقى، افتتحت جامعة عفرين التي تحولت لمركز أكاديمي يُدرّس جزئياً بلغته الأم ضمن كلية خاصة للأدب الكردي وكليات للإعلام والطب والاقتصاد، في مشهد غير مسبوق داخل الجغرافيا السورية التي لطالما عاشت تحت قيود تعريب صارمة منذ ستينيات القرن الماضي.

لكن مع اجتياح القوات التركية وفصائل "الجيش الوطني" المنطقة في آذار/ مارس 2018، تبدّلت الموازين تماماً. فالتجربة التي اعتُبرت حينها خطوة باتجاه الاعتراف بالتنوع الثقافي، تقلّصت سريعاً إلى دروس رمزية لا تتجاوز ساعتين أسبوعياً، مقابل أربع ساعات من اللغة التركية.

 

"توحيد المناهج": شعار أخفى قرار الإلغاء

خلال تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ومع إصدار وزارة التربية برنامجها الدراسي للمواد في العام الدراسي الأول بعد سقوط الأسد، أعلنت الحكومة السورية المؤقتة عن "توحيد المناهج التعليمية السورية" في كامل الجغرافية السورية عدا شمال وشرقي سوريا؛ أي بمعنى آخر إلغاء مناهج "حكومة الإنقاذ" في إدلب و"الحكومة المؤقتة الموالية لتركيا" في ريف حلب الشمالي والشرقي، وهو قرار بدا للوهلة الأولى إجراءً إدارياً تنظيمياً، لكنه عملياً ألغى الحضور الخجول والمسيس للغة الكردية.

لم يصدر أي تصريح يعلن المنع، لكن غياب الكردية عن المنهاج الجديد كشف المضمون الحقيقي للقرار. وكان محافظ حلب، عزام الغريب، وحينما زار عفرين الشهر الماضي، وصف الملف بأنه "موضوع سياسي"، مؤكداً ضمنياً أن المسألة ليست تربوية؛ بل أداة تفاوض مرتبطة بالعلاقة المتوترة بين دمشق، والإدارة الذاتية، وأنقرة. 

النهج نفسه يذكرني ككردي سوري بسياسات البعث في سوريا حين استُخدمت المدرسة لترسيخ هوية واحدة على حساب باقي المكونات. واليوم، تُعاد الصيغة نفسها، لكن بأدوات مختلفة وتحت مظلة جديدة.

 

التعليم بين الهيمنة الثقافية والفوضى الأمنية

المشهد التعليمي في عفرين يعكس حالة من التناقض الواضح؛ ففي حين تسعى الحكومة المؤقتة إلى فرض منهاج موحّد على مدارس المنطقة، إلا أنها لا تملك السيطرة الأمنية والعسكرية الكاملة هناك. فالفصائل المسلحة التي أعلنت اندماجها شكلياً تحت مظلة الحكومة، لا تزال تحتفظ بهياكلها التنظيمية ومناطق نفوذها السابقة، وإن ارتدت "ثياباً جديدة" تعكس فقط مظهراً من مظاهر الوحدة الشكلية. هذه الفصائل تتحكم عملياً بمفاصل الحياة اليومية، بما في ذلك الجوانب الخدمية والإدارية، مستبعدةً إلى حدّ كبير أي دور فعلي للمؤسسات الحكومية الرسمية.

وفي ظل هذا الواقع، تبدو قدرة الحكومة المؤقتة على فرض سلطتها الحقيقية على المدارس محدودة للغاية، وهو الأمر الذي يضعف دور المؤسسات السورية ويقوّض حضورها لمصلحة المؤسسات والجامعات التركية التي باتت تملأ الفراغ المتزايد في هذا القطاع.

جامعة غازي عنتاب مثلاً، التي استولت على مبنى المركز الثقافي الحكومي في المدينة، باتت ترعى تعليم اللغة والثقافة التركيتين عبر برامج ومعاهد تابعة لها. وفي المقابل، أُغلق قسم اللغة الكردية في معهد إعداد المعلمين، ولم يُسمح إلا لدفعة واحدة بإكمال دراستها.

هذه التحولات ليست معزولة عن سياسة تركية أوسع تعتمد "القوة الناعمة" في الشمال السوري، فالمناهج المطبوعة في أنقرة، ووجود معاهد مثل "يونس إيمره" في مدينة صغيرة كعفرين، يشيران إلى مشروع ثقافي طويل الأمد يهدف إلى دمج المنطقة ضمن الفضاء التركي ثقافياً، ليس بعيداً عما فعلته روسيا في القرم عندما فرضت لغتها كلغة إلزامية بعد ضمّها في العام 2014.

وبالتالي يبقى السؤال الأساسي هنا كيف يمكن للحكومة فرض قرار تربوي يلغي لغة وثقافة شعب كامل، في حين تعجز عن ضبط فصائل وزارة دفاعها في نواحي وقرى عفرين؟

 

ما وراء اللغة... أزمة ثقة وذاكرة وطنية

هنا يجب التركيز على أن قضية اللغة الكردية ليست مسألة تعليمية فحسب؛ بل تمسّ جوهر العلاقة بين الحكومة السورية والكرد. فالكرد الذين تعرّضوا لعقود من المنع والتجريد من الجنسية قبل العام 2011، رأوا في إدخال لغتهم إلى المدارس خطوة رمزية نحو العدالة الثقافية.

إلغاء هذه الخطوة اليوم يعيدهم إلى المربع الأول. المفارقة أن التصريحات الرسمية لا تزال تتحدث عن "الكرد كمكوّن أصيل"، لكن على الأرض تُلغى لغتهم، وتُهمَّش مؤسساتهم، وتُدار مناطقهم بقرارات فوقية. إنها ازدواجية الخطاب التي عرفها السوريون طويلاً، حين كانت القومية تُقدَّم كذريعة لوحدة البلاد، في حين تُستخدم أداة لطمس التنوع.

ليست اللغة الكردية وحدها الملف التربوي الشائك بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). فمناطق شمال وشرق سوريا تعتمد مناهج خاصة بها: الكردية للكرد، والعربية للعرب، في حين تُبقي المدارس السريانية والآشورية والمسيحية في قامشلو على المنهاج الحكومي الصادر عن دمشق.

إغلاق الإدارة الذاتية لبعض المدارس المسيحية قبل شهرين أثار نقاشاً واسعاً حول تنظيم العملية التعليمية في المنطقة؛ إذ اعتُبر من قبل البعض مؤشراً على اختلاف الرؤى حول المناهج وإدارتها، في حين وصفه آخرون بأنه إجراء إداري يهدف إلى تنسيق التعليم وضمان توحيد بعض المعايير. وبالرغم من إعادة فتح المدارس بعد اتفاق مؤقت، يبقى النقاش حول المرجعية التربوية والمناهج المعتمدة قائماً.

وهنا يبرز السؤال الأعمق: كيف سيدرس أبناء الطائفة المسيحية مناهج تصف قتلة أجدادهم في مجازر السيفو على أنهم أبطال، وكيف سيتعلم الطفل الكردي في شمال وشرق سوريا كل شيء بلغة لم يسمعها من قبل؟ وإلى أيّ مستوىً من الانقسام سيعيشه السوريون حين تُفرض مناهج بلون واحد وتوجه واحد، مقصيةً كل تنوعهم العرقي والطائفي واللغوي الغني؟.

 

الاعتراف بالتنوع اللغوي اختبار حقيقي للوحدة السورية

التجارب الدولية أثبتت أن الاعتراف بالتعدد اللغوي لا يهدد وحدة الدول؛ بل يعزّز استقرارها. كندا مثلاً جعلت من ثنائية الإنجليزية والفرنسية أساساً لوحدتها الوطنية، وسويسرا حافظت على أربع لغات رسمية من دون أن تفقد تماسكها.

في المقابل، كانت سياسات المنع والإنكار سبباً رئيساً في تفجّر النزاعات في أماكن أخرى. فمنع اللغة الكتالونية في إسبانيا خلال عهد فرانكو، خلق صراعاً هوياتياً استمر لعقود، ولم تُحل أزمته إلا بعد عودة اللغة إلى المدارس والإدارة.

السياق السوري لا يختلف كثيراً في هذا المنحى: تجاهل المكونات المحلية وإقصاؤها لغوياً وثقافياً لن يؤدي إلا إلى المزيد من الانقسام، خاصة في منطقة مثل عفرين التي تعيش تحت تعدد سلطات متنازعة وتداخلات خارجية معقّدة.

لذلك لا يمكن النظر لهكذا إقصاء إلا كقرار يعكس رؤية سياسية عميقة ترى في التنوّع تهديداً لا ثروة، لذا إذا كانت الحكومة المؤقتة تطمح فعلاً لدمج الكرد كشريك وطني، فإن احترام حقوق الكرد اللغوية والثقافية هو الاختبار الحقيقي لهذا الطموح.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث