في قاعة الشعب الكبرى في بكين، حيث تُصاغ ملامح المراحل الحاسمة في مسيرة الصين الحديثة، التأمت أعمال الدورة الكاملة الرابعة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني بين 20 و23 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، في لحظة يعتبرها الصينيون نقطة تحوّل قبل الدخول في الخطة الخمسية الخامسة عشرة (2026–2030).
مرآة تعكس روح الحزب
كانت الدورة، بكل تفاصيلها وجدول أعمالها، أشبه بمرآة تعكس روح الحزب في هذه المرحلة: الانضباط قبل الانطلاق، والمراجعة قبل التوسع، والتصحيح قبل التخطيط. انعقدت الدورة في ظل عالم متغير تزداد فيه الضغط على الصين من الخارج، وفي الوقت الذي تعمل فيه بكين على تثبيت نموذجها الخاص من التحديث الصيني النمط، وهو النموذج الذي يربط التنمية الاقتصادية بالثبات السياسي والتكامل الاجتماعي. وقد شكّل اعتماد مقترحات الخطة الخمسية الجديدة الحدث الأبرز؛ إذ حددت الوثيقة ملامح الاقتصاد الصيني في السنوات الخمس المقبلة، مركزةً على التحول نحو التنمية عالية الجودة، وتحقيق الاكتفاء العلمي والتكنولوجي الذاتي، وتسريع بناء دولة قوية في مجالات الدفاع، والابتكار، والبيئة الخضراء. لكن ما جعل هذه الدورة مختلفة لم يكن فقط ما طرحته من رؤى اقتصادية؛ بل أيضاً ما وجهته من رسائل سياسية داخلية واضحة حول الانضباط والمحاسبة. بين التنمية والانضباط فإلى جانب النقاشات الاقتصادية العميقة، اتخذت الدورة قرارات حاسمة بطرد عدد من كبار المسؤولين من الحزب بعد إدانتهم بمخالفات جسيمة للانضباط والقانون. هذه القرارات لم تكن تفصيلاً ثانوياً أو إجراءً روتينياً؛ بل حملت دلالات رمزية بالغة القوة في توقيتها ومضمونها. ففي لحظة تستعد فيها الصين لمرحلة جديدة من التخطيط، أراد الحزب أن يؤكد أنه لا يمكن إطلاق مسيرة تنمية كبرى من دون تطهير الصفوف، وأن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الداخل. في ثقافة الحزب الشيوعي الصيني، العقاب ليس انتقاماً؛ بل تطهيراً. وهو ما عبّر عنه الرئيس شي جين بينغ مراراً حين شدد على أن الثورة الذاتية للحزب هي الضمانة الأساسية لاستمرار الصين في مسارها الصحيح. الرسالة التي خرجت من الدورة كانت واضحة: من لا يلتزم بالانضباط التنظيمي، لا مكان له في المسيرة القادمة مهما علا موقعه.
رسالة صريحة
إنها رسالة صريحة مفادها أن الولاء والانضباط هما ركيزتا الاستقرار السياسي والنهضة الاقتصادية، وأن الحزب مستعد لتصحيح ذاته قبل أن يسمح للفساد أو التراخي بأن يتسللا إلى بنيته الصلبة. وبذلك، جسدت الدورة عملياً فلسفة القيادة الصينية في الحكم والإدارة: التنمية المستدامة تحتاج إلى حزب نظيف، والسلطة القوية لا تُقاس باتساعها؛ بل بقدرتها على تصويب أخطائها. ففي الصين، حيث تعتبر الكفاءة والإخلاص معيارين للحكم على المسؤول، لا يُنظر إلى العقاب كوصمة؛ بل كجزء من عملية تنقية مستمرة تحفظ للحزب تماسكه وللدولة استقرارها. الخطة الجديدة: اقتصاد قوي ومجتمع متوازن على المستوى الاقتصادي، أرست الدورة دعائم مرحلة جديدة من التحول البنيوي، حيث تضع الصين الابتكار في قلب التنمية، وتدعم التصنيع المتقدم والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الأخضر، إلى جانب مواصلة النهضة الريفية وتحقيق التوازن بين الأقاليم. أما على المستوى الدولي، فقد أكدت الدورة على مواصلة الانفتاح المؤسسي، والبناء المشترك عالي الجودة لمبادرة الحزام والطريق، بما يعزز موقع الصين كشريك موثوق في التنمية العالمية. لكن خلف هذه الأهداف المعلنة، تقف فلسفة سياسية أعمق: إن الدولة القوية في الصين لا تُبنى فقط عبر الاقتصاد أو التكنولوجيا؛ بل عبر إرادة الانضباط والالتزام الجماعي. فكل خطة خمسية جديدة تبدأ بمراجعة الذات قبل رسم الأرقام والجداول. لقد كانت الدورة الرابعة إعلاناً مزدوجاً: إعلان انطلاق نحو مستقبل تنموي جديد، وإعلان صرامة في مواجهة أي خلل داخلي. في الخطاب السياسي الصيني، يُنظر إلى الانضباط كقيمة تأسيسية لا تقل أهمية عن الابتكار أو النمو. ولذلك، فإن قرارات العقاب التي صدرت عن هذه الدورة لم تكن مجرد محاسبة؛ بل تجديداً للعقد الأخلاقي بين الحزب والدولة والشعب. خلاصة القول إن بكين لم تكتفِ بإطلاق الخطة الخمسية الجديدة؛ بل أطلقت معها رسالة انضباط وطنية تؤكد أن نهضة الصين ليست نتيجة مواردها فقط، بل ثمرة نظام سياسي قادر على تصحيح مساره باستمرار. ففي عالم تتهاوى فيه كثير من الأنظمة تحت وطأة الفساد والانقسام، تُظهر الصين نموذجاً مختلفاً: أمة تمضي نحو المستقبل بخطوات محسوبة، يدها على قلب التنمية، وعينها على نقاء الذات.
