في غضون أقل من عام على سقوط نظام المخلوع بشار الأسد وبدء مرحلة جديدة تحت رئاسة أحمد الشرع، بادرت دمشق بتحركات دبلوماسية مكثفة أعادت رسم علاقاتها مع جهات كانت لسنوات من أشد خصومها.
من مشاركة في القمم العربية، إلى عودة مباحثات مباشرة مع واشنطن وأنقرة وموسكو، ودعوات متبادلة لفتح السفارات وزيارات رسمية، تبدو سوريا اليوم في مرحلة "إعادة تموضع" على الخارطة الدولية.
فمنذ تسلّم الرئيس الشرع مقاليد الحكم في كانون الأول/ ديسمبر 2024، أطلقت وزارة الخارجية السورية بقيادة الوزير أسعد الشيباني سلسلة مبادرات انفتاح دبلوماسي، أثمرت عن خطوات ملموسة: وقف العقوبات الأميركية جزئياً، تعليق عقوبات أوروبية، واستئناف التمثيل الدبلوماسي مع دول عربية كانت قد قطعت علاقاتها لسنوات، وحتى الأمم المتحدة، ممثلة بمبعوثها السابق غير بيدرسون، باتت تدعو صراحةً إلى رفع العقوبات ودعم الحكومة السورية في مهام إعادة الإعمار.
واقع معقّد
وبالرغم من هذا الزخم الدبلوماسي، فإن الواقع داخل سوريا يبقى أكثر تعقيداً. ففي الشارع السوري، لا تزال التحديات الاقتصادية والخدمية هي التي تتصدر المشهد: الكهرباء متقطعة، والبنية التحتية مدمرة في مناطق واسعة، وسعر الصرف يشهد تقلبات تهدد القدرة الشرائية لفئات واسعة من السكان، بالرغم من بعض المؤشرات الإيجابية مثل استقرار الأمن النسبي وانخفاض منسوب العنف.
ويقرّ مسؤولون سوريون بأن "الدبلوماسية الناجحة" لم تُترجم بعد إلى حياة أفضل للمواطن، فوزير الخارجية الشيباني نفسه، وفي لقاءات إعلامية متعددة، أكد أن الحكومة "تعمل على بناء شراكات حقيقية لإعادة الإعمار"، لكنها لم تحصل بعد على دعم مالي دولي واسع النطاق؛ بل إن مصادر دبلوماسية غربية تشير إلى أن رفع العقوبات ما زال جزئياً، ويشترط "خطوات ملموسة" في ملفات مثل العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان.
ما يثير التساؤل هو الفجوة بين الصورة الإيجابية التي تحاول دمشق تقديمها خارجياً، ومزاج الشارع الداخلي، الذي لا يزال متردداً بين الأمل والحذر.
ففي الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن "انتصار الشعب السوري" و"استعادة السيادة"، فإن كثيرين في المناطق المحررة حديثاً يشكون من غياب الخدمات الأساسية، وانعدام فرص العمل، وصعوبة العودة لمن هُجّروا.
إلا أن هناك مؤشرات أولية على تحسن تدريجي: عودة بعض المصانع للعمل، تحسن في حركة النقل بين المحافظات، واستقرار نسبي في الأمن الداخلي، حتى في مناطق شهدت توترات سابقة مثل السويداء والحسكة. كما أن الحكومة الجديدة ركّزت على خطاب "الحوار والشمول"، وأعلنت عن نيّتها تشكيل برلمان متنوع يمثل كل الأطياف، وهو ما قد يساهم في تعزيز الشرعية الداخلية.
تحسن جزئي
وفي هذا الصدد، قال الباحث في المركز العربي لدراسات سوريا المعاصرة، الدكتور سمير العبد الله لـِ "المدن": "من المبكر الحكم على نحوٍ قاطع على مدى نجاح السياسة الخارجية للإدارة السورية الجديدة، خاصة في ظل الظروف المعقدة التي تمر بها البلاد بعد حرب استمرت أكثر من أربعة عشر عامًا، وما خلّفته من دمارٍ واسع، وانقسامٍ داخلي، وعقوباتٍ دولية متواصلة".
وتابع: "مع ذلك، يمكن الاستناد إلى مجموعة من المؤشرات الأولية لتقييم الاتجاه العام للدبلوماسية السورية، أولًا: على صعيد العلاقات الخارجية، فقد شهدت السياسة الخارجية السورية تحسنًا ملموسًا في موقع سوريا الإقليمي والدولي، فقد أعادت عدة دول فتح سفاراتها في دمشق أو عيّنت قائمين بالأعمال، وهو مؤشر إيجابي على عودة التواصل الدبلوماسي التدريجي، في المقابل، لا تزال سوريا لم تعيّن سفراء جدد، مما يجعل هذا التحسن جزئيًا أكثر منه شاملًا، كما يبرز في هذا السياق الدعم العربي والتركي المتزايد للدبلوماسية السورية الجديدة، وهو ما يعكس رغبة إقليمية في إعادة دمج دمشق ضمن النظام الإقليمي، وإن كان ذلك ما يزال في طور التشكّل".
ثانيًا: على صعيد الأمن القومي والملفات الداخلية، يبقى هذا الجانب من أضعف النقاط في الأداء الحالي؛ إذ لم تنجح السياسة الخارجية حتى الآن في تعزيز الأمن القومي السوري أو الحد من التدخلات الخارجية في الملفات الداخلية، خصوصًا في مناطق مثل الجزيرة السورية والسويداء، ومع ذلك، لا يمكن تحميل وزارة الخارجية وحدها مسؤولية هذا التراجع، فوجود قوات أجنبية وتعدد القوى الفاعلة ميدانيًا يجعل من الصعب تحقيق اختراق حقيقي دون رؤية استراتيجية متكاملة توحّد الموقف السياسي والعسكري والاقتصادي، وفق العبد الله.
وأضاف: "أما على صعيد الرأي العام السوري، فمن الملاحظ وجود ارتياح نسبي وإعجاب شعبي بأداء وزير الخارجية السورية، وهو شعور يعكس بالأساس توق السوريين لأي تحسّن بعد سنوات من العزلة والأزمات، أكثر مما يعكس إنجازات ملموسة على الأرض، ومع ذلك، ما زالت هناك شكاوى من أداء بعض السفارات والقنصليات السورية في الخارج، خصوصًا في ما يتعلق بالخدمات للمغتربين، بالرغم من الجهود الجارية لتحسينها".
واستطرد: "لذلك يمكن القول إن أداء الخارجية السورية خلال المرحلة الراهنة مقبول نسبيًا بالنظر إلى حجم التحديات، ويعود هذا إلى مزيج من الجهود الدبلوماسية السورية المباشرة والدعم العربي والإقليمي المتزايد، لكن تحقيق نقلة نوعية في السياسة الخارجية السورية يتطلب: وضع استراتيجية واضحة المعالم تقوم على تحديد أولويات السياسة الخارجية، واتباع نهج تدريجي في تصفير المشكلات الخارجية بدلاً من طرحه كشعار عام، والعمل على تفعيل الدبلوماسية الاقتصادية والثقافية لتعويض محدودية الموارد والإمكانات".
وختم قائلاً: "لا يمكن لسوريا أن تعيد تموضعها الدولي على نحوٍ كامل إلا عبر مقاربة واقعية ومتدرجة توازن بين الإصلاح الداخلي والانفتاح الخارجي، وتستفيد من المناخ الإقليمي الحالي الذي يميل إلى التهدئة وإعادة ترتيب التحالفات".
ماذا عن الدعم المالي والاستثماري؟
من جهة أخرى، تبقى مسألة الدعم المالي والاستثماري الخارجي حاسمة، فالعلاقات الدبلوماسية لا تبني مدارس ولا تعيد الكهرباء.
وبالرغم من إشارات من الصين وروسيا عن استعدادهما للمساهمة في إعادة الإعمار، فإن حجم الاستثمارات الفعلية لا يزال محدوداً، في حين أن واشنطن، بالرغم من تطبيعها المتدرج، لم تُقدّم بعد حزمة دعم اقتصادية واضحة؛ بل ربطت أيّة مساعدة بـ"إصلاحات جوهرية".
بدوره، قال المحلل السياسي (والوزير السابق في الحكومة السورية المؤقتة) محمد ياسين النجار لـِ "المدن": "نجحت الدبلوماسية السورية، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، في إعادة إدماج سوريا دولياً، وذلك بمساعدة دول إقليمية وازنة كتركيا والسعودية وقطر في دعم الانفتاح عليها، وقد تجاوزت بذلك تحديات كبرى، كالخروج من تصنيفات الإرهاب لتصبح شريكاً متعاوناً في مكافحته".
وأضاف: "كما نجحت في تسويق نفسها كدولة واقعية غير إيديولوجية، مستعدة للتعاون بناءً على تقاطع المصالح، وجاهزة لتفعيل موقعها الاستراتيجي كمعبر آمن للتجارة والطاقة والاتصالات لمصلحة الإقليم والعالم".
وأوضح "داخلياً، وبالرغم من وجود بوادر انعكاس إيجابي، إلا أن الأثر على الشارع لا يزال محدوداً ودون المتوقع، فالقرارات الأخيرة، مثل رفع سعر الكهرباء، تؤثر سلبياً، خصوصاً أنها تأتي بالتزامن مع تعثر إطلاق عجلة الاقتصاد والصناعة، وعدم تحسن الدخل، واستمرار عدم الاستفادة من الكفاءات السورية، بالرغم من مرور أكثر من سبعة أشهر على تكليف الحكومة الانتقالية، والأهم من ذلك، أن غياب التواصل الحقيقي والشفافية مع المجتمع حول الخطط والتحديات الراهنة، يفاقم الأوضاع ويضعف الأثر المنشود للنجاح الدبلوماسي على حياة المواطنين".
ووسط كل ذلك، يمكن القول إن سوريا الجديدة نجحت جزئياً في إعادة تقديم نفسها دولياً، بفضل دبلوماسية نشطة وخطاب انفتاح واقعي يبتعد عن لغة المحاور، لكنّ هذا النجاح لا يزال هشاً، ويعتمد على قدرتها في نقل نتائجه إلى الداخل، فما دام المواطن السوري يعاني من انقطاع الكهرباء وغلاء المعيشة، ستبقى أيّة إنجازات دبلوماسية عرضة للتشكيك، وبالتالي فإن الرهان الحقيقي لم يعد على مدى قدرة دمشق على "إقناع العالم"؛ بل على مدى قدرتها على "إقناع الشارع السوري".
